
تعيش سورية مرحلة دقيقة من تاريخها الحديث، مرحلة تختلط فيها الأوراق بين ما هو سياسي وما هو عسكري، بين ما هو داخلي وما هو إقليمي. وفي قلب هذه المرحلة برز حدثان متوازيان يحملان دلالات عميقة: الأول، الإعلان العلني عن لقاء رسمي بين وزير خارجية سورية الجديد ونظيره الإسرائيلي في باريس برعاية أميركية مباشرة. والثاني، اعتراف الجيش الإسرائيلي بوقوع عملية نوعية استهدفت جنوده في جبل الشيخ بالجولان السوري المحتل. مشهدان متناقضان يختصران التحولات الراهنة: تطبيع معلن فوق الطاولة، ومقاومة ناشئة تحتها.
الإعلان الرسمي عن اللقاء لم يكن مجرد تفصيل بروتوكولي، بل هو إعلان دخول سورية الجديدة إلى نادي المطبّعين. فبعد سنوات من خطاب الممانعة ورفض أي تسوية مع الاحتلال، خرجت وكالة الأنباء السورية الرسمية لتعلن اللقاء العلني في باريس، لتفتح الباب واسعاً أمام مسار جديد تُرسم خطوطه الكبرى في العواصم الغربية والإقليمية. الأخطر أن من يقود هذا المسار هو أحمد الشرع، القادم من خلفية جهادية راديكالية، ما يعكس التحول الجذري من خطاب تكفيري ضد أي تفاوض إلى براغماتية سياسية تبرر كل شيء تحت شعار “المصلحة الوطنية”.
— لكن التطبيع هنا لا يقتصر على فتح السفارات أو تبادل التمثيل الدبلوماسي، بل يتجاوز ذلك إلى تفاهمات أمنية شديدة الحساسية. فالمعطيات تشير إلى اتفاقات تتعلق بالملفات اللبنانية والعراقية واليمنية، بل وحتى بقطاع غزة. أي أن ما يجري ليس مجرد علاقات ثنائية، بل إعادة هندسة للمنطقة وفق رؤية أميركية- إسرائيلية تهدف إلى تحويل سورية من ساحة مواجهة إلى ساحة حماية للكيان. وهنا تكمن الخطورة، لأن هذه الترتيبات الأمنية قد تكون أخطر بكثير من أي معاهدة سلام معلنة.
— في المقابل، جاء الاعتراف الإسرائيلي بوقوع عملية في جبل الشيخ ليقلب المعادلة. فالرواية الرسمية التي تحدثت عن انفجار “قنبلة قديمة” تبدو واهية أمام حجم الإصابات التي بلغت سبعة جنود، أربعة منهم في حالة خطيرة. الجيش الإسرائيلي الذي يمتلك آلاف الخبراء لا يمكن أن يقع في هذا الفخ. المؤشرات كلها تؤكد أننا أمام عملية مقاومة منظمة، لا مجرد حادث عرضي. وزاد من الشكوك إعلان إسرائيل اعتقال خلية بحوزتها أسلحة واتهامها بتهريبها إلى لبنان، وهو ما يعزز فرضية وجود حراك مقاوم ناشئ في الجنوب السوري.
— رمزية جبل الشيخ ليست عابرة. فمن يسيطر على قمته يتحكم في مفاتيح فلسطين ولبنان وسورية. أن تبدأ العمليات منه يعني أن المقاومة اختارت نقطة عالية لتعلن أنها ما زالت موجودة. قد تكون هذه مجرد بداية متواضعة، لكنها تحمل في طياتها رسالة استراتيجية: طريق المقاومة لم يُغلق مهما تغيرت التحالفات.
— التيارات الإسلامية وجدت نفسها في مأزق. فبعض قيادات الإخوان المسلمين سارعوا إلى التبرؤ من التطبيع، واعتبروه خيانة صريحة، في محاولة للحفاظ على ما تبقى من رصيدهم الشعبي. لكن هذا التبرؤ يخفي انقساماً داخلياً: فريق براغماتي يرى أن الترتيبات الجديدة تفرض نفسها ولا بد من التكيف معها، وفريق عقائدي يصر على أن التطبيع خروج عن الثوابت. هذا الانقسام يعكس مأزقاً أعمق: كيف لحركات رفعت شعار “تحرير فلسطين” أن تتعامل مع سلطة خرجت من رحمها ثم تبنت عكس خطابها تماماً؟