
لم يعد الاقتصاد العالمي فضاءً محايدًا تحكمه آليات السوق الحرة وحدها. فمع اشتداد المنافسة الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، برز مفهوم جديد في العلاقات الدولية يُعرف بـ”تسليح الاعتماد المتبادل”، أو ما اصطلح عليه بالإنجليزية Weaponized Interdependence. ويقصد به استخدام الروابط الاقتصادية والتجارية والمالية والتكنولوجية التي نشأت بفعل العولمة كأدوات ضغط، بل كسلاح استراتيجي لتحقيق أهداف سياسية وأمنية.
هذا التحول يضع العالم أمام واقع مختلف: فالعولمة التي بشّرت بالتكامل والرفاه باتت تُنتج هشاشة متبادلة، حيث يستطيع كل طرف تعطيل سلاسل التوريد أو تقييد التكنولوجيا أو حرمان الآخر من الموارد الحيوية.
خلال تسعينيات القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة، سيطرت قناعة أن العولمة ستقود إلى نظام اقتصادي أكثر استقرارًا وسلامًا، إذ ستجعل الحروب مكلفة للغاية، لكن الواقع أظهر أن الاعتماد المتبادل ذاته يمكن أن يتحوّل إلى أداة إكراه.
وقد صاغ الأكاديميان هنري فاريل وأبراهام نيومان (2019) هذا المفهوم بشكل منهجي، مبيّنين كيف استغلت الولايات المتحدة تمركزها في شبكات المال والتكنولوجيا للضغط على خصومها. فالدولار الأمريكي، مثلًا، يُستخدم في نحو 88% من المعاملات التجارية الدولية وفق صندوق النقد الدولي، ما يمنح واشنطن قدرة على عزل أي دولة عن النظام المالي العالمي.
وكان من أهم أدوات التسليح الاقتصادي أو استخدام عناصر القوة الاقتصادية كسلاح العقوبات المالية، فمنذ هجمات 11 سبتمبر 2001، توسّعت الولايات المتحدة في استخدام العقوبات، في البداية كانت تستهدف الأفراد والتنظيمات الإرهابية، لكن سرعان ما أصبحت تشمل دولًا كاملة مثل إيران وكوريا الشمالية وروسيا، ووفق بيانات مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأمريكي (OFAC، 2024)، هناك أكثر من 10، 000 كيان حول العالم خاضع لعقوبات أمريكية مباشرة.
ثم تأتي ثانيا التكنولوجيا وأشباه الموصلات والتي تُعد “نفط العصر الرقمي”، وتنتج تايوان وحدها أكثر من 60% من الرقائق المتقدمة عبر شركة TSMC استغلت واشنطن هذا التركّز للضغط على الصين عبر قيود التصدير ومنعها من الوصول إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، لكن هذه الاستراتيجية دفعت بكين إلى تسريع خططها لبناء سلسلة توريد مستقلة.