
على امتداد السواحل الجنوبية للبحر الأحمر، من مرسى علم مرورًا بأبو رماد وحلايب وشلاتين، تتناثر مشاهد تبدو وكأنها قادمة من زمن بعيد من نساء بدويات يجلسن فى حلقات صغيرة أمام بيوتهن أو داخل خيام كبيرة أو داخل مراكز الشباب والجمعيات الأهلية، تنساب أصابعهن بخفة فوق الخيوط الملونة لتنسج أثوابًا تقليدية مطرزة بدقة، أو تُشكّل حُليًا من الفضة المرصعة بأحجار الصحراء الكريمة، أو تصنع حقائب وأدوات من جلود الإبل والأغنام والخوص.
هذه الحرف اليدوية والتراثية، التى توارثتها السيدات عن الجدات، كانت يومًا ما العمود الفقرى للحياة الاقتصادية والاجتماعية فى مجتمعات الجنوب، إذ مثّلت مصدر دخل أساسى، ووسيلة للتعبير عن الهوية الثقافية، وحافظة لذاكرة المكان. لكن اليوم، ومع تغير أنماط الحياة وانتشار المنتجات التجارية الجاهزة، بات هذا التراث فى مهب الريح ويهدده خطر الاندثار.


ورغم ما تتميز به هذه المشغولات والحرف اليدوية التراثية من أصالة وجمال ودقة، فإن الحرفيين والحرفيات فى جنوب البحر الأحمر يواجهون تحديات قاسية فى صدارتها تراجع الإقبال المحلى فى ظل منافسة قوية من المنتجات المستوردة الأرخص سعرًا والأسرع انتشارًا، وضعف التسويق السياحى واقتصار عرض هذه المنتجات على بعض الفعاليات الموسمية أو المعارض المؤقتة، وغياب الدعم المؤسسى المستدام سواء فى توفير منافذ بيع دائمة أو برامج تدريب وتأهيل للشباب، وأخيرًا هجرة الأجيال الجديدة التى تعزف عن تعلم هذه المهن بسبب ضعف العائد المادى، ما يهدد بانقطاع توارث هذه الحرف.


«كنت أبيع فى الأسبوع الواحد ما يكفينى لإعالة أسرتي»، تقول «أم سلمى»، إحدى السيدات من حلايب، وهى تعرض أساور فضية مزينة بأحجار العقيق، مضيفة: «الآن، أقضى أيامًا كاملة فى السوق ولا أبيع إلا قطعة أو اثنتين، والتجار الكبار يستوردون منتجات شبيهة بأسعار أقل».
أما «زينب»، وهى حرفية من مرسى علم، فتؤكد أن المشكلة ليست فقط فى قلة المبيعات، بل فى عدم وجود منافذ عرض دائمة: «لو كان هناك مكان ثابت داخل الفنادق أو فى الممشى السياحى، كان الوضع أفضل. نحن نعيش على المواسم فقط، وهذا لا يكفي».


واتفق عدد من الحرفيين وأهالى الجنوب على ضرورة اتخاذ خطوات عاجلة لإنقاذ هذا التراث، أبرزها فتح معارض دائمة فى الغردقة ومرسى علم وربطها بالفنادق والمناطق السياحية، وإقامة مهرجانات سنوية للحرف والمشغولات التراثية لجذب السياحة الداخلية والخارجية، وإطلاق برامج تدريبية للشباب والفتيات فى حلايب وشلاتين وأبو رماد مع دعم مالى لبدء مشروعات صغيرة، والتسويق الإلكترونى العالمى لهذه المنتجات عبر منصات التجارة الإلكترونية وإدماج الحرف فى البرامج السياحية ليكون التعرف عليها جزءًا من تجربة الزائر.


وخلال الأشهر الماضية، أعلن اللواء عمرو حنفى، محافظ البحر الأحمر، عن خطة لدعم الصناعات التراثية، تتضمن إقامة معارض للمنتجات الحرفية داخل الفنادق والمنشآت السياحية بالغردقة، وتخصيص أماكن عرض فى الشوارع السياحية والمطارات، بالإضافة إلى معرض دائم فى الممشى السياحى. المبادرة لاقت ترحيبًا من الحرفيين، الذين يرون أنها خطوة أولى بحاجة إلى استمرارية ومتابعة لضمان نتائج ملموسة.


وأكد الدكتور أسامة غزالى، الباحث البيئى فى تراث البحر الأحمر وأحد الداعمين للمهن والحرف التراثية ومؤلف أطلس الحرف التراثية، أن الحرف اليدوية والتراثية فى جنوب البحر الأحمر ليست مجرد نشاط اقتصادى، بل سجل حى لذاكرة المكان، يعكس قصص التنقل فى الصحراء، وعلاقة الإنسان بالبحر، وألوان الطبيعة المحيطة. من الأزياء المطرزة التى تحمل ألوان الرمال والجبال، إلى الحُلى التى تمزج بين الفضة وأحجار البحر الأحمر، وصولًا إلى المشروبات العشبية التى توارثتها الأجيال كوصفات علاجية وغذائية. وإن فقدان هذه المهن لا يعنى فقط خسارة مصدر دخل للعائلات، بل طمس جزء من الهوية الثقافية الفريدة لهذه المنطقة، التى تعد من أكثر المناطق تنوعًا وغنى بالتراث فى مصر، واليوم، يقف هذا التراث عند مفترق طرق؛ إما أن يجد من يدعمه ويحميه، أو أن يذوب فى زحام الأسواق الحديثة ومنتجات المصانع.


الدكتور محمد عبد الغنى، رئيس مجلس إدارة إحدى الجمعيات البيئية، أوضح أن الجمعية، بالتعاون مع سفارة أجنبية، تنظم ورش عمل لتعليم استخدام الخوص والسعف والخرز فى إنتاج المشغولات اليدوية، مع دمج الجلد فى التصميمات. وتشمل الورش التدريب على الرسم والتصميم وإنتاج قطع فنية مميزة تمهيدًا لعرضها فى القرى السياحية، لأن دعم هذه المشروعات يأتى فى إطار تشجيع الحرف المصرية الأصيلة التى تحفظ التراث والتاريخ، وأن المعارض تمثل وسيلة لتسويق المنتجات الحرفية فى مختلف المحافظات، ودعوة للشباب للتعرف على التراث وتشجيع المنتجات صديقة البيئة.


أما عمر الأمين، وكيل مديرية التضامن الاجتماعى السابق، فأشار إلى أن تدريب السيدات فى القرى البدوية مثل أبو غصون وحماطة وبرانيس يهدف لتحقيق التكامل بين الحفاظ على التراث التقليدى والأساليب العصرية، مؤكدًا أن البرامج يتم إعدادها وفق معايير علمية وبعد دراسات تقييمية للحرف المحلية بما يناسب طبيعة المنطقة وأهميتها البيئية والتراثية. ومن أجل الحماية لهذه الحرف التراثية والأدوية، نظمت جهات مانحة، بالتنسيق مع جمعيات أهلية، دورات تدريبية خاصة لفتيات وسيدات مرسى علم وحلايب وشلاتين والتجمعات البدوية لتعليم الصناعات والحرف التراثية، بهدف توفير فرص عمل ومصدر دخل وحماية هذه المهن من الاندثار، إلى جانب إقامة معارض بيع داخل القرى السياحية المنتشرة بالبحر الأحمر.
وأكدت كريمة محمد، عضو المجلس القومى للمرأة بالبحر الأحمر، أن المشاركة فى المعارض لم تكن مجرد تسويق، بل منصة لدعم المرأة المعيلة وتحويل الحرف إلى مشاريع صغيرة مستدامة، مما يساهم فى تحسين الدخل وتقليل البطالة. ووعد منظمو المعرض بتوسيع نطاق تسويق هذه المنتجات لتصل إلى الأسواق العالمية، مع تدريب الحرفيات على تقنيات جديدة تضمن استدامة الجودة والابتكار، حيث تعهدت وزارة التضامن الاجتماعى بتقديم دعم فنى ولوجستى للسيدات لتمكينهن من الوصول إلى الأسواق المحلية والدولية.
وأكدت أن الحرف اليدوية لم تعد مجرد إرث ماضٍ، بل أداة حية لصناعة المستقبل وتنمية المجتمعات المحلية، وأنه خلال معرض القاهرة الدولى للكتاب خلال السنوات الماضية، شاركت سيدات حلايب وشلاتين بجناح مميز فى معرض «تراثنا» للحرف اليدوية الذى افتتحه الدكتور مصطفى مدبولى، رئيس الوزراء، تحت شعار «التراث ينير الطريق»، وجذبت المنتجات المصنوعة من الجلود والسعف والخرز أنظار الزوار وأظهرت قدرة المرأة على مزج الأصالة بالإبداع العصرى، لتكون شاهدًا على إحياء التراث فى صورة اقتصادية معاصرة.