
خلال العقود الثلاثة الماضية، كانت أزماتنا في الإعلام أخف وطأة وأقل ضررًا، كانت تتخلص في ملفات وقضايا من عينة الفصل بين الإعلام والإعلان، وخلافه، قبل توحش أدوات الإعلام الجديد، وتوظيفها من قبل قوى المصالح الدولية في حسم الصراعات واختطاف الدول من شعوبها في وضح النهار، فأصبحنا نطالب بالفصل بين الشائعات والحقائق في نقل الأخبار، توثيق المعلومات قبل تعميمها، ولفت الأنظار إلى أن الإعلام ليس وسائل لنقل المعلومات، بل خط الدفاع الأول عن وعي المجتمع.
وفق هذه المعطيات، فإن اجتماع الرئيس عبد الفتاح السيسي مع رئيس الحكومة وقيادات الهيئات المنظمة لعمل الصحافة والإعلام في مصر لا يمكن إدراجه ضمن اللقاءات البروتوكولية – الدورية، في ضوء مكتسبات «فورية» تحققت قبل أن ينفض الاجتماع نفسه، وأخرى سيجري العمل على تنفيذها ضمن برنامج عمل محدد الملامح، يقطع الطريق على التنظير، والتقعير، والتسييس، بعدما قررت الدولة استكمال الجهود المستمرة منذ عام 2016، لتطوير هذا القطاع الحيوي.
الرؤية الرئاسية هذه المرة لا تتحدث فقط عن تحسين صورة أو تعديل خطاب، بل عن إعادة صياغة المشهد الإعلامي من جذوره: بيئة مهنية منضبطة، شراكة بين الدولة والمجتمع، وأدوات تواكب الإيقاع العالمي دون أن تنقطع عن الثوابت الوطنية. والأهم أن هذه الرؤية تعترف بأن أي إصلاح لا يكتمل ما لم تُفتح أبواب المعلومات أمام الإعلام، خاصة في أوقات الأزمات، حتى لا يُترك فراغ يملؤه التضليل.
في ضوء فهمي (النسبي)، فالمطلوب، أولًا، أي تطوير حقيقي للإعلام يبدأ بترسيخ بيئة مهنية منضبطة تحمي حرية الرأي والتعبير في إطار الدستور والقانون، وتضمن في الوقت نفسه عدم تحويل هذه الحرية إلى أداة للفوضى أو التحريض أو التلاعب بالرأي العام.
والدولة حين تتحدث عن إعلاء حرية التعبير واحتضان الآراء الوطنية، فإنها تربط ذلك بمسئولية مهنية وأخلاقية تحمي المجتمع من الشائعات الممنهجة أو الخطاب المعادي للمصلحة الوطنية، لا بإطلاق العنان لمن يسيئون استغلال المنابر الإعلامية (يكفي المعلومات المغلوطة والمواقف المشبوهة التي تُبَث في عقول شباب المهنة ممن يُفترض منهم نقل الخبرة إلى الأجيال الجديدة).
ثانيًا، الإصلاح الإعلامي لا يُختزل في «إزاحة» أفراد أو «إطلاق» آخرين، بل في إصلاح منظومة العمل بكاملها: تحديث البنية التكنولوجية للمؤسسات، تدريب الكوادر على معايير المهنية الدولية، وضمان التوزيع العادل للمساحات الإعلامية بين مختلف الآراء التي تلتزم بالثوابت الوطنية، وهذا المسار يحقق التعددية والانفتاح الفكري المنصوص عليهما في التوجيهات الرئاسية، دون أن يتحول الأمر إلى تصفية حسابات شخصية أو إعادة إنتاج أزمات الماضي.