
هناك مدنٌ تسكن ذاكرة الأرض بخرائطٍ من ماء وتراب، وهنالك دولٌ تسكن الذهن بقضاياٍ لا تُمحى. لكن حين تتحول السياسة إلى آلةٍ للدم، ويصبح الجارُ غمامةً من خوف وذاكرةً من فقدان، تتبدّل الخرائط وتتلوّن الحدود بلون آخر: لون العجز والمعاناة. السؤال الذي يلوح الآن فوق سَفُنِ الشرق الأوسط ليس عن مَن يملك القوة العسكرية أو من يملك الخرائط، بل عن السبب الذي جعلَ جمهورًا كاملًا يصمتُ أمام آلةٍ تتهيأ لتصير قاطعًا نهائيًا لقصةٍ عمرها مائة عام.
الصمتُ السياسي ليس حالةً واحدة، إنه طيفٌ من الأسباب: تأييدٌ واضح، خوفٌ باطن، فقدانٌ للأفق، أو اعتقادٌ بأنّ الخيار العنيف حلٌ نهائي لمشكلةٍ لا حلول لها. في بلادٍ تُربّى فيها الأجيال على رواياتٍ متضادة، وعلى جراحٍ متوارثة، يصبح قرارُ الصمت قرارًا جماعيًا مغلفًا بشرعيةٍ تاريخية. ولكن الصمت الذي يشبه قبضة اليد على فم التاريخ يختلف عن الصمت الناتج عن القمع، الأوّل يختار، والثاني يَخشى. حين نُحاول تمييز الاثنين في المشهد الإسرائيلي اليوم، نجد انسدادًا في البوصلة: جمهورٌ كان على قاب قوسين من انتفاضةٍ مدنية ضد تقويض المؤسسات، ثم انتقل، في سبرٍ مفاجئ، إلى قبولٍ جماعي أو تبريرٍ لخيارٍ قاتل.
التحقق الأوليّ: هل أوروبا صامتة لأنها راضية؟ هل الشعوبُ في بلدانٍ أخرى صامتة لأنها خائفة؟ التاريخ يعطينا أمثلة على تواطؤٍ شعبيّ مع جرائمٍ قادت إلى كوارث، لكنه يُعلّمنا كذلك أن الصمت ينكسر حين تُفقد قدرةُ التبرير: عندما يتجاوز العنف كلّ حدود العقل، وتتبدّل لغةُ الحرب من أهدافٍ رسمية إلى مشاهد إبادةٍ لا تُخفى. هنا لا يعود النزاع مجرّد صراعٍ بين دولتين، يصبح اختبارًا أخلاقيًا لحياةٍ مشتركة، وللمعنى الذي يُعطى للسياسة باسم الوطن.
ثمّة بعدٌ جغرافي لا يقل أهمية عن البعد الأخلاقي: الأرضُ نفسها شاهدة. غزة ليست مجرد مساحةٍ على خريطة، هي سيرة آلافٍ من البشر، قرى وحقول وحارات، ولها جسرٌ ممتد إلى الجوار الإقليمي الذي يأكل من نفس الفضاء الجغرافي والاقتصادي والسياسي. عندما تُحرق هذه الحلقة، لا تُصاب غزة وحدها، تُشعل المنطقة بأسرها — تذهب الاتفاقات، تتصدّع التحالفات، وتُفقد شعوب بأكملها أمانها القومي.
أمّا المنطق السياسي فهو أبردُ وأقسى: دولةٌ تختار اليوم توسيع رقعة عنفها إقليميًا، تمارس سياسةً خارج الشرعية وتُغرق جبينها بوصمةٍ ستُقضي على فرص السلام والتطبيع لعقود.هذا ليس مجرد فشلٍ استراتيجي، إنه انتحارٌ سياسي طويل الأمد.لأنّ النصر العسكري إن تحققَ مؤقّتًا، فلن يضمنَ استقرارًا ولا سيادةً آمنة. السياسة التي تُبنى على قهر جارٍ ومحو ذاكرةٍ شعبٍ لن تزرع إلا أحقادًا وثمرة انتقاماتٍ مستقبلية.
فلماذا إذن هذا الصمت الداخلي؟ أرى ثلاث قراءات متداخلة: الأولى، أنّ شريحةً من المجتمع تشعر بأن هذا العنف يمثل حماية وجودية — تحفظ سيادةً أو تُعيد ترتيب موازين قوةٍ بحسب سردها الخاص. الثانية، أنّ خوفًا منتشرًا يخنق الفضاء العام: الحرية السياسية قابلةٌ للنزع حين تُعامل كتهديدٍ للأمن. الثالثة، أنّ هناك إحساسًا بالتيه: من الذي سيقدّم بديلًا؟ من سيضمن سلامة التغيير؟ غياب المشروع السياسي البديل يجعل جماعاتٍ واسعة تفضّل الاستقرار المزوّر على مخاضٍ قد يؤول إلى الفوضى.