جزائر الاحتضان وفلسطين بكر أبوبكر

جزائر الاحتضان وفلسطين بكر أبوبكر



( الآراء المطروحة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الحياة برس )

لايكاد أي باحث الكتابة في تاريخ الثورة الفلسطينية إلا ويقفز الى ذهنه أو يدهمه في إطار البحث والدرس طبيعة العلاقة الوطيدة بين هذه الثورة العملاقة التي تفجرت في العام 1965م وتلك الملهمة لها أي الثورة الجزائرية التي تفجّرت ضد المستعمر الفرنسي عام 1954م.

ولما كانت الأمة العربية والاسلامية تتابع بشغف تواصل الثورة الجزائرية الحديثة ثم انتصارها في العام 1962 كان الفلسطينيون يبحثون عن السبيل الصحيح للتخلص من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في أرض فلسطين، فقفزت الثورة الجزائرية وانتصارها العظيم لتشكل حقيقة الإلهام القريب، كما كانت شخصية جمال عبدالناصر وقيادته، وكما كانت حالة الاستفادة من تجارب الشعوب بالبعيد في فيتنام وكوريا وكوبا والصين.

في الإطار العربي سارت الثورة الفلسطينية على نهج شقيقتها الجزائرية في العمل العسكري ضد الأجنبي المحتل، وطمحت بشكل كامل للسير على خطاها التحررية لكن “حساب الحقل ليس كحساب البيدر” كما يقول المثل الدارج، نظرًا لاختلاف الظروف والوقائع والقوى وتحكم العقل الاستعماري الاحتلالي الجمعي الذي خلق الكيان الصهيوني ليظلّ شوكة في حلق الأمة يستنزفها الى الأبد كما يبتغون.

القدوة والإلهام الجزائري

في جميع الأحوال سعى الخالد فينا ياسر عرفات، وخليل الوزير للقاء مع قادة الثورة الجزائرية وهذا ماكان مع الرئيس بن بلا ثم الرئيس بومدين، الذي انتج افتتاح أول مكتب لحركة فتح بالجزائر ثم منظمة التحرير الفلسطينية، ثم ما كان عبر السنين من علاقات رفاقية وطيدة تعاظمت في ظل قيادة جبهة التحرير الجزائرية وخاصة عبرالرئيس الأسطوري هواري بومدين.

استطاعت الجزائر أن تجعل من أرضها مساحة مفتوحة لنشاطات الثورة الفلسطينية العسكرية حيث التدريب والتأهيل، والتعليمية الدراسية، وتلك السياسية حيث الاحتضان الدائم للنشاطات السياسية والتنظيمية ذات الأهمية بل وتلك التصالحية بين الفرقاء من الاخوة في الفصائل الفلسطينية.

 فمن يستطيع أن ينسى اتفاق عدن-الجزائر للمصالحة الفلسطينية أو دورات معظم المجالس الوطنية الفلسطينية التي كان أشهرها حين تم اعلان اقامة دولة فلسطين (اعلان الاستقلال) من الجزائر في العام 1988 وفي إطار الاحتفال المشهود عُزف النشيدين الوطنيين الجزائري والفلسطيني وألقيت كلمات القادة الفلسطينيين والجزائريين فقط بهذه المناسبة التي نحتفل بها حتى اليوم.

الإلهام والاقتداء بل ويمكنك القول الانبهار كانت السمة الرئيسة الأولى في العلاقة التي انتقلت لعلاقة وطيدة بين ثورتين عسكريًا وسياسيًا وفكريًا ودبلوماسيا وشعبيًا.

 ولا يغيب عن الذهن الاقتداء التنظيمي حيث أن النظام الداخلي (الدستور) لحركة فتح في كثير من مفاتيحه اتخذ منحى نظام جبهة التحرير الجزائرية، بل ومن المؤكد ان الوثائق الأولى للحركة كانت تسير على هذا المنوال أو تقتدي خاصة “بيان حركتنا” و”هيكل البناء الثوري” الذي كان لعادل عبدالكريم الدور الأبرز في تدوينه.

لم تنقطع الصلة الفلسطينية الجزائرية سواء بالاستفادة المشتركة بين التجارب أوالحوارات المستمرة أوالعلاقات الأخوية بين الشعبين أو في العلاقات الغنية بين القيادتين .

 في الجزائر وحتى اليوم وجدت فلسطين الموئل الرحب والحضن الدافيء الذي لايضع المصالح الاقتصادية أو الذاتية للدولة مقدمة على العلاقة النضالية مع فلسطين، أي ليس كما آلت اليها الأمور مع دول أخرى فقدت وعيها العروبي أو الاسلامي وباعت حضارتها بثمن بخس لغاية مصالح أمنية ذاتية أو سلطانية للصهيوني المنتفخ.

عندما زرت الجزائر

عندما زرتُ الجزائر ولاكثر من مرة لم أشعر -منذ الوطأة الاولى- بالغربة التي يشعرها أي غريب في بلد مختلف، ولم أشعر بالبرودة أو الانفصال التي قد يشعرها الشخص في بلد غريب أيضًا، بل وأثناء تنقلي لعمل حركي وطني بين مدن الجزائرالعاصمة، وسطيف وباتنا وتبسة وقسنطينة وعنابة ووهران مما زرت بل أحسست بحقيقة الغنى البشري والثقافي والحيوية الشعبية، وجمال وتنوع الطبيعة وبهاء اللهجة وحقيقة التنوع والتجذر الذي جعل حب هذا البلد في قلبي الى اليوم.

حقيقة الاحتضان

كلنا كفلسطينيين مازلنا نردّد القول المأثور عن الراحل الكبير هواري بومدين أننا مع فلسطين ظالمة أو مظلومة، وكلنا يتغنى بالشهيد أبوعلى إياد الذي لقّب باسم (عميروش فلسطين) نسبة للعقيد عميروش أحد قادة الثورة الجزائرية وشهدائها الأوائل.

ومَن مِن كوادرنا الأوائل وحتى اليوم لم يمر عليه أن دخل في كلية شرشال، او درس أو درّس في جامعة جزائرية أو مدرسة، أوأن يشهد اجتماعًا أو مؤتمرًا أو احتفالًا مثل ما عقدته فتح وغيرها من الفصائل، أو منظمة التحرير الفلسطينية في الجزائر ومنطقة سيدي فرج البهية بالعاصمة تشهد على ذلك.

في المؤتمر الوطني التاسع للاتحاد العام لطلبة فلسطين عام 1983 كنا بحضرة منطقة سيدي فرج بالعاصمة الجزائر، وكان ياسر عرفات الى جانبه قيادة الثورة الفلسطينية يطلّون علينا، ونحن كطلاب اتخذنا بغالبنا من مخالفة الراحل أبوعمار منهجًا رافضًا لزيارته القاهرة آنذاك بعد الخروج من طرابلس-لبنان، لكن في ظل عقلية الرحابة والسِعة لياسر عرفات وأرض الجزائر وشعبها وقيادتها كانت الأمور تنتهي دومًا بالتوافق والاحتضان.

لقد أنشدنا بحماسة منقطعة النظير

قسما بالنازلات الماحقات* و الدماء الزاكيات الطاهرات

و البنود اللامعات الخافقات* في الجبال الشامخات الشاهقات

نحن ثرنا فحياة أو ممات* و عقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا… فاشهدوا… فاشهدوا…

كما أنشدنا

فدائي فدائي فدائي * يا أرضي يا أرض الجدود

فدائي فدائي فدائي* يا شعبي يا شعب الخلود

بعزمي وناري وبركان ثاري* وأشواق دمي لأرضي وداري

صعدت الجبال وخضت النضال* قهرت المحال حطمت القيود

فدائي فدائي فدائي

وكما الحال ممّا حصل لاحقًا وشهدناه في التصالح (اتفاق عدن-الجزائر عام 1984م)، والذي توّج لاحقًا تم في أحد دورات المجلس الوطني الفلسطيني في قصر الصنوبر.

 فكنت ترى دومًا يد الرئيس ياسر عرفات تحتضن يد الرئيس الشاذلي بن جديد (في اعلان الاستقلال)، وأيادي د.جورج حبش ونايف حواتمة وصلاح خلف مع شريف مساعدية وكل القيادة الجزائرية متعانقة بلا تفرقة أوتمييز.

جزائر الثقافة والفكر والنضال

الجزائر الثائر والوطن الجامع والشعب البطل حيث التقت الحضارات، وكان للعربية والامازيغية حقيقة التلاقي والتلاقح والثراء الوطني المتفق في ذات الأصول الحضارية الاسلامية والحضارية هو النموذج الذي أنجب العلماء والمناضلين والمفكرين والكتاب والأدباء الكبار الكُثُر.

جزائر الثورة الحديثة (1954-1962م) التي اقتدينا بالكثير مما فيها، كانت قبلها جزائر “لالا فاطمة” التي قادت ثورة القبايل ضد الاستعمار الفرنسي منذ وطأت أقدامه الأرض الطاهرة ليدنسها، وهي جزائر ثورة الأمير عبدالقادر الجزائري (مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة ) والذي إثر نفيه للمشرق كان له في دمشق وفلسطين السيرة العطرة وكثير أفضال لا ينساها التاريخ، كما لم ينسى للمغاربة عامة فضلهم وعلى رأسهم الجزائريين الذين قدموا مع البطل صلاح الدين الأيوبي وشاركوا في تحرير فلسطين.

نحن نحب الجزائر بكل ما فيه، كما نحب الجزائر الذي أنجب القادة والمناضلين والعلماء وكان منهم نموذج المفكر الكبير ذو الشأن العالي وقدوة الأمة الشيخ عبدالحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين، وصاحب شعار “الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء” وهو الذي زار الحجاز والشام فشكل حقيقة التلاقي الدائم، والانتماء الترابي.

خاض الجزائريون حربًا على النفسية الخانعة المأخوذة بالغرب والمنبهرة به-ماذا نرى اليوم ببعض قيادات الأمة للأسف؟!- أي ضد حالة “القابلية للاستعمار” كما كان يسميها الراحل المفكر الاسلامي الجزائري الكبير مالك بن نبي الذي أعدّ أطروحته التنويرية فكان من آثاره الحية فينا حتى اليوم “شروط النهضة” و”مشكلة الثقافة” و”مشكلة الأفكار” وميلاد المجتمع والقضايا الكبرى، و”من اجل التغيير”، وهذا ليس إلا غيض من فيض الفكر والثقافة والأدب في هذا البلد الكبير مما تعلمناه بمحبة ويقين.

الجزائر حين تتجاوز حقل الأشواك

استطاع الجزائر العظيم تجاوز العشرية السوداء (1991-2002م)، واستطاع أن ينتقل للديمقراطية التعددية التي كانت لتعددية المنابر والصحف والاعلام فيها مدخلًا لتعميق الوحدوية، والتعددية الديمقراطية التي مكنتها من المرور عبر الطريق المليء بالألغام بأقل الخسائر. فطريق المناضلين دومًا هي طريق متعرجة، وليست مفروشة بالورود بل هي درب الأشواك كما كان يطلق عليها القائد الكبير ياسر عرفات.

في اتصال -حين يتاح الاتصال فائق الصعوبة دوما- مع أخي وشقيقي المناضل والقائد في النضال الفلسطيني المعتقل والمحكوم عند الصهيوني بثلاثة مؤبدات و40 عامًا، ياسر محمود أبوبكر أشاد لي بالوعي الجزائري الإعلامي بقضيتهم أي قضية الأسرى والمعتقلين بسجون الاحتلال-مما يصلهم- متمنيًا دومًا الإضاءة والإبرازالتي لربما تحقق الصحوة العربية من موات أوجفوة أو غفلة وانبهار بالآخر، والعالمية حولها فنحتفل بالحرية بين أهالينا في فلسطين ونزور الجزائرالعظيم كما قال.

الجزائر التي مازالت على العهد مع فلسطين شعبا وحكومة وصحافة وإعلامًا مازالت كعادتها تضرب النموذح الحقيقي بالعناق الذي لا تهزه الأحداث، “ظالمة او مظلومة” وهو ذات الأمر الذي أنعكس مؤخرا منذ سنوات في الصحافة الجزائرية والاعلام الجزائري المقدام بجهد حثيث وعمل دؤوب انتصارًا لفلسطين، وبخاصة لقضية الأسرى والمعتقلين لدى الكيان الصهيوني..

الصحافة والاعلام الجزائري كنموذج عربي حضاري ثقافي حيّ لم يفتأ ينظّر للثورة الفلسطينية وانتصار فلسطين، حتى في مرحلة خلافاتنا الطافية على السطح، وفي مرحلة الخفوت والانحسار التي تعيشها قضيتنا اليوم، فكانت قضية الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين قضية من أهم القضايا بجهود مباركة من “الأسير البطل المحرر” المناضل الفلسطيني العميق والمتميز الاخ خالد صالح “عزالدين”، وبجهود كل رؤساء التحرير في الصحف الرائعة.

ولكل ذلك نقدم الشكر كما قال وأجاد د.رأفت حمدونة:”لرؤساء تحرير الجرائد والصحف الجزائرية والتي بدأت بملحق ” صوت الاسير ” بتاريخ 01/01/2011 كمبادرة من جريدة الشعب الجزائرية ومديرها العام السابق السيد “عزالدين بوكردوس” ، وتوسعت لتصل لجريدة الشروق ، وجريدة الوسط ، وجريدة البلاد ، وجريدة العالم ، وجريدة المغرب الأوسط ، وجريدة التحرير ، وجريدة السلام ، وجريدة المواطن ، وجريدة الحوار ، التي أصدرت الملاحق الحاصة بالأسرى الفلسطينيين ، والتي حظيت قضية الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين باستجابة واسعة وغير مسبوقة من كافة وسائل الإعلام الجزائرية الرسمية والحزبية والاهتمام الشعبي والجماهيري”.