شكلّ حضور الفنان الإسباني مريانو بيرتوتشي (1884-1955) إلى شمال المغرب إضافة نوعية ظلت مصدراً مشرقا عن الذاكرة المشتركة، بعدما ساهم في إنشاء المدرسة الإعدادية للفنون الجميلة بمدينة تطوان (سنة 1945) التي كوّنت عبر عقود ومازالت أجيالاً غفيرة من الفنانين، وأضحت صرحاً أكاديميا يحمل اسم المعهد الوطني للفنون الجميلة.
لقد انبهر بيرتوتشي بمميزات المدن العتيقة بشمال المغرب وبرصيدها الفني والتراثي، ومنها تطوان وشفشاون وطنجة، وغيرها من المدن المغربية، بالإضافة إلى بساطة النسيج المجتمعي بها، وبعاداته وتقاليده وكذا بالمناظر الطبيعية، لينخرط عبر الريشة وتناسق الألوان في توثيق ونقل الحياة الثقافية والصناعة التقليدية والإثنوغرافية، حيث أرّخت أعماله الانطباعية والمتجانسة لتقنيات وأساليب احترافية فريدة، وصارت بمهاراتها التعبيرية وتأثيراتها الجمالية عنوانا عريضا وأفقا للعديد من الفنانين المغاربة والإسبان.
كان بيرتوتشي الذي تولى المهام الإدارية التي أسندت إليه في الحقبة الاستعمارية وهو يؤرخ فنيًا لمدن الشمال، يدرك جيدا مميزات وقيمة وغنى الفضاءات الحضارية المغربية، التي اندمج في عوالمها وسلط الضوء على مواضيعها المختلفة من لباس مغربي مرتبط بأصالته، ومن أزقة ومساجد وفنادق وأبواب وأسواق وساحات، فضلا عن توثيق المواسم والأعياد، ليجعل من نسيج الأمكنة جسورا إنسانية موحية وذات دلالات حسية، ممتدة في معالم الثقافة المغربية التي تعددت وتكاملت بأصالتها وعراقتها مع الحضارة الأندلسية.
تأخذنا لوحات الرسام بيرتوتشي في رحلته عبر نسيج مدن الشمال وتفاصيلها، مراقبا ومتأملا الأشياء وما تزخر به من ألوان وروائح وما تتألق به من حياة؛ هو الذي لم يتوقف عن النظر بعين الفنان، مُعيداً بناء اللوحة التشكيلية جماليا، وواضعا بينه وبين الإنسان نافذة مفتوحة على سماواته البعيدة.
