في أروقة المختبرات الهادئة، حيث يرقص الضوء على أنابيب الزجاج وتهمس الأجهزة بلغة العلم، تُنسج خيوط مستقبل الاقتصاد العالمي. ليس في الأسواق الصاخبة وحدها تُبنى الأمم، بل في تلك الزوايا الخفية التي يتحول فيها الفكر إلى ابتكار، والابتكار إلى قيمة اقتصادية.
إن البحث العلمي ليس مجرد ترف فكري، بل هو الشريان النابض الذي يغذي النمو الاقتصادي، ويحول الأحلام إلى واقع ملموس يرفع راية التقدم. فكيف يمكن لهذا الجسر الواهي بين المختبرات والأسواق أن يصبح عمادًا لاقتصاد مزدهر؟ وما الدلائل التي تؤكد أن الاستثمار في البحث هو المفتاح لعصر تنافسي جديد؟
تاريخ البشرية شاهدٌ على أن كل قفزة اقتصادية كبرى كانت مسبوقة بانقلاب معرفي. من اختراع العجلة إلى ثورة الذكاء الاصطناعي، كان البحث هو القاطرة التي سحبت عربات الاقتصاد نحو آفاق جديدة. في عام 2023، أظهر تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أن الدول التي استثمرت أكثر من 3% من ناتجها المحلي الإجمالي في البحث والتطوير (R&D) حققت معدلات نمو اقتصادي تفوق 2.5% سنويًا في المتوسط، مقارنةً بـ1.2% فقط في الدول التي أهملت هذا المجال.
لكن الأرقام وحدها لا تحكي القصة كاملة. البحث هو النهر الذي يروي أراضي الابتكار، فيحولها من صحراء قاحلة إلى واحة خصبة. ففي كوريا الجنوبية، التي كانت تعاني من الفقر بعد الحرب الكورية، أدى الاستثمار المكثف في البحث العلمي خلال الستينيات إلى ظهور عمالقة مثل “سامسونج” و”هيونداي”، لتصبح اليوم رابع أكبر اقتصاد في آسيا، بمساهمة البحث والتطوير التي تقدر بنحو 4.9% من ناتجها المحلي الإجمالي في 2023، وفقًا للبنك الدولي.
إذا كان البحث هو البذرة، فإن السوق هو التربة التي تنمو فيها. لكن الطريق من المختبر إلى الأسواق ليس مفروشًا بالورود؛ إنه مسار محفوف بالتحديات، يتطلب جسورًا من السياسات الذكية والشراكات الاستراتيجية. في الولايات المتحدة، التي تقود العالم في الإنفاق على البحث بمبلغ تجاوز 700 مليار دولار في 2024 (حسب تقديرات المعهد الوطني للعلوم)، نجد أن برامج مثل “SBIR” (Small Business Innovation Research) لعبت دورًا محوريًا في تحويل الأفكار العلمية إلى منتجات تجارية. هذا البرنامج، الذي قدم منحًا بقيمة 4.3 مليار دولار في 2023، ساعد شركات صغيرة على تطوير تقنيات مثل الروبوتات الطبية، التي أضافت 12 مليار دولار إلى الاقتصاد الأمريكي في غضون عامين فقط.
في المقابل، تعاني العديد من الدول النامية من فجوة بين البحث والتطبيق. في تقرير لليونسكو عام 2023، تبين أن إفريقيا، التي لا تخصص سوى 0.4% من ناتجها المحلي للبحث، تفقد سنويًا ما يقارب 20 مليار دولار من الفرص الاقتصادية بسبب ضعف البنية التحتية لتحويل الأبحاث إلى منتجات قابلة للتسويق. لكن هناك بصيص أمل: كينيا، على سبيل المثال، شهدت نموًا في اقتصادها الرقمي بنسبة 10% في 2024، بفضل مبادرات مثل “iHub”، التي ربطت بين الباحثين ورواد الأعمال لتطوير تطبيقات مثل “M-Pesa”، وهو نظام دفع عبر الهاتف أحدث ثورة في الشمول المالي.
إن الابتكار، كثمرة البحث، هو الوقود الذي يشعل محركات النمو الاقتصادي. في عصر الثورة الصناعية الرابعة، حيث يتقاطع الذكاء الاصطناعي مع البيانات الضخمة، أصبح الابتكار لاعبًا رئيسيًا في تشكيل الأسواق. وفقًا لتقرير “ماكينزي” لعام 2024، فإن الشركات التي تستثمر في الابتكار القائم على البحث تحقق أرباحًا تفوق نظيراتها بنسبة 25%، بينما تساهم التقنيات الناشئة مثل “إنترنت الأشياء” بما يصل إلى 3.2 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي سنويًا.
الصين نموذج حي لهذا التحول. باستثمارها 580 مليار دولار في البحث والتطوير في 2023، قفزت صادراتها التكنولوجية إلى 1.2 تريليون دولار في 2024، مدفوعة بابتكارات مثل شبكات الجيل الخامس (5G) التي طورتها “هواوي”. هذا النجاح لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة سياسة واضحة ربطت بين المختبرات والمصانع، حيث تحولت الأبحاث الأكاديمية إلى منتجات تجارية في غضون سنوات قليلة.
لكن ليست كل القصص تنتهي بنهايات سعيدة. فالبحث العلمي، رغم دوره الحاسم، يواجه عقبات تهدد قدرته على تعزيز الاقتصاد. أولها التمويل: في تقرير للبنك الدولي عام 2024، تبين أن 60% من الدول منخفضة الدخل تعاني من نقص حاد في ميزانيات البحث، مما يحد من قدرتها على الابتكار. ثانيًا، ضعف الشراكات بين القطاعين العام والخاص، حيث أشار تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن 45% من المشاريع البحثية في العالم النامي تفشل في الوصول إلى السوق بسبب غياب التنسيق. وأخيرًا، الفجوة المهارية، إذ أكدت اليونسكو أن 70% من القوى العاملة في الدول النامية تفتقر إلى التدريب اللازم لتطبيق الأبحاث.
إن الطريق من المختبرات إلى الأسواق ليس مجرد مسار تقني، بل رؤية حضارية. الدول التي ستدرك أن البحث ليس تكلفة بل استثمار، هي التي ستقود دفة الاقتصاد العالمي. الإحصائيات تتحدث: في الاتحاد الأوروبي، ساهم البحث في إيجاد 19 مليون وظيفة بين 2015 و2023، بينما أضافت الابتكارات الطبية في الهند 15 مليار دولار إلى اقتصادها في 2024، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
لننظر إلى المستقبل بعين الأمل: تخيّل عالمًا تتحول فيه كل ورقة بحثية إلى مشروع ينعش الأسواق، وكل مختبر إلى مصنع ينتج الثروة. هذا ليس حلمًا بعيدًا، بل واقع ممكن إذا ما تضافرت الجهود. ففي عالم يتسارع فيه الزمن، وتتغير فيه الأسواق بين ليلة وضحاها، يبقى البحث العلمي المنارة التي تهدي السفن الاقتصادية إلى بر الأمان.
من المختبرات إلى الأسواق، رحلة تبدأ بفكرة وتنتهي بثروة. إن البحث العلمي ليس رفاهية الأمم الغنية، بل ضرورة كل أمة تسعى للنهوض. الأرقام تصرخ بذلك، والتاريخ يؤكده، والمستقبل ينتظر منا أن نكون على قدر التحدي.