أثار نبيل فهمي، وزير الخارجية المصري الأسبق، تساؤلات حول ملامح المرحلة السياسية المقبلة مع عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية، ويرى أن “فوز ترامب، رغم التحديات القانونية التي يواجهها، يُشكل لحظة فارقة في التاريخ السياسي الأمريكي”، لافتا إلى أنها تحمل معها نهجا مغايرا يعتمد على مبدأ “أمريكا أولاً”، ما سيعيد تشكيل النظام الدولي وفق رؤى اقتصادية انعزالية قد تُحد من الحضور العسكري الأمريكي عالميا، مع تداعيات غير متوقعة على الجغرافيا السياسية.
كما علق السياسي المصري، في مقال نشر على منصة المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بعنوان “فرصة ترامب لتحديد مستقبل الشرق الأوسط”، على طبيعة ترامب البراغماتية، التي تُركز على عقد الصفقات بدلا من الالتزام بالقواعد الأخلاقية أو الإستراتيجيات التقليدية. ويبرز هذا النهج بحسب فهمي في ملفات حساسة كالصراع في أوكرانيا والقضية الفلسطينية، مشيرا إلى “التحديات التي تواجه ترامب، وتشمل تحقيق توازن دقيق بين الأطراف المتنازعة، مع خطر تقويض قيم القانون الدولي لصالح المصالح الآنية”.
كما لفت نبيل فهمي الانتباه إلى أن عودة ترامب قد تكون نقطة تحول رئيسية في العلاقات الدولية؛ فإما أن يُحدث تغييرا إيجابيا من خلال إنهاء النزاعات وتحقيق السلام، أو أن يتسبب نهجه غير التقليدي في اضطرابات عميقة للنظام العالمي، مسجلا أن “الوقت وحده كفيل بالكشف عن نتائج هذا الفصل الجديد من السياسة الدولية”.
نص المقال:
سيتم تنصيب دونالد ترامب كرئيس الولايات المتحدة السابع والأربعين في 20 يناير 2025، ويُمثل فوزه إنجازاً تاريخياً، إذ فاز المرشح الجمهوري بشكل استثنائي في التصويت الانتخابي والشعبي معاً. وما يجعل فوز ترامب مختلفاً أيضاً أنه متهم بـ 34 جريمة جنائية ويواجه محاكمات في قضايا أخرى أمام محاكم الولايات والمستوى الفدرالي. ولم تشهد الولايات المتحدة من قبل انتخاب شخص متهم بجريمة لأعلى منصب في البلاد.
تأثير ترامب
هناك عدد من الكتب صدرت منذ عام 1987 تُنسب إلى ترامب، وكان موضوعها المشترك هو ترامب نفسه. ورغم عدم وجود نظرية فكرية معينة أو أساس مفاهيمي لفكر ترامب في أي من هذه الكتب فإنه يمكن أن نستنتج أنه يؤمن بشدة بأن كل شيء له ثمن. وخلال فترة ولايته الأولى كرئيس للولايات المتحدة اعتمد ترامب، وفقاً لروايته الخاصة، بشكل كبير على التلفزيون ووسائل الإعلام التجارية كمصادر رئيسية للاطلاع على الأحداث العالمية والمحلية، بدلاً من الاعتماد على المصادر التاريخية، والمواد العلمية، أو البيانات الرسمية المؤكدة، وأكد موظفوه السابقون، مراراً وتكراراً، طبيعته المتغيرة والمتقلبة؛ ما جعله باستمرار هدفاً لأولئك الذين يريدون استمالته.
إن فهم طريقة ومنهاج تفكير ترامب أمر لا يُقدر بثمن، لأن قراراته كرئيس للولايات المتحدة ستكون لها عواقب داخلية وخارجية. إن منتقدي ترامب من بين الديمقراطيين الأمريكيين والأوروبيين يتهمونه بشدة بإضعاف النظام الدولي القائم على القواعد، والذي يزعمون أنهم يروجون له. لكن من المفارقات العجيبة أن المعايير المزدوجة لهؤلاء المنتقدين كانت أشد سوءاً وتأثيراً من خطابات ترامب النارية في كثير من الأحيان. ومن الجدير بالذكر أن تصريحات ترامب المتكررة وترشيحاته تُظهر أنه في ولايته الثانية سيبذل قصارى جهده لتنفيذ معتقداته، مع إعطاء قليل من الاهتمام للآراء الأخرى في حزبه أو خارجه.
إنني حقاً أعتقد أن ترامب لديه الفرصة لتحديد وتشكيل مستقبل العلاقات الدولية. ويبقى السؤال هو ما إذا كان تأثيره ستكون له عواقب كارثية أم نتائج إيجابية تاريخية؟ فبصفته رئيساً لولاية ثانية فإن ترامب سيترك أثراً بالغاً بالتأكيد من خلال نجاحاته وإخفاقاته وما سيفعله أو ما لن يفعله؛ فعلى سبيل المثال ستؤثر سياسته “أمريكا أولاً” بشكل كبير في الجغرافيا السياسية العالمية، وكذلك فإن تطبيقه التعريفات الجمركية الاقتصادية على الأصدقاء والأعداء على حد سواء ستكون له تداعيات خطرة على نظام السوق الحرة والمؤسسات الدولية التي طالما روّج لها الغرب. ويُعد موقف ترامب من تغير المناخ مهدداً للجهود الهشة بالفعل والهادفة إلى تحقيق توافق عالمي في هذا الأمر. إضافة إلى ذلك فإن قضيتين مُلحتين هما الصراع في أوكرانيا والشرق الأوسط سيكون لهما تأثير خاص في خطط وسياسات ترامب.
نهج غير عادي
من منظور كلي، يمكن وصف نهج ترامب للشؤون الدولية بعدة نقاط رئيسية؛ فمن ناحية يمكن القول إنه يعطي الأولوية للجانب الاقتصادي مثل العائد الاقتصادي والتكلفة، بدلاً من التركيز على الجوانب السياسية أو الإستراتيجية المرتبطة بالجغرافيا. وقد اقترن هذا النهج بسياسة “أمريكا أولاً” الانعزالية، التي اتسمت بالمشاركة العسكرية العالمية المقيدة. ونتيجة لذلك يمكن وصف نهج ترامب بأنه قصير الأجل وتعاملي (متعلق بالتجارة) بطبيعته؛ ومن ناحية أخرى يتسم أسلوبه في العلاقات الدولية بعقد الصفقات البراغماتية، التي تركز على مفهوم الفائز والخاسر بدلاً من الاعتبارات الأخلاقية للصواب والخطأ.
كذلك لا يُعد ترامب من دعاة الحرب، بل هو من أنصار عقد الصفقات. وفي مجال العلاقات الدولية غالباً ما تتم مساواة هذا النهج بالدبلوماسية. ومع ذلك فإن أسلوب ترامب شخصي للغاية، فهو لا يعتمد على المؤسسات الدبلوماسية لتحقيق الأهداف. وفي حين يظل هذا النهج مُفضلاً على الاستخدام المفرط للقوة فإن ضعفه يكمن في ميل ترامب إلى تفضيل الأقوياء والمسيطرين بشكل ساخر وفج على حساب حقوق الآخرين.
حرب أوكرانيا
في ما يتعلق بأوكرانيا كتب المرشح لمستشار الأمن القومي في إدارة ترامب مايك والتز، مؤخراً، أن “القتال طالما استمر في حرب استنزاف ضد قوة أكبر هو وصفة للفشل”. ويرى بعض المقربين من ترامب أن المساعدات المقدمة لأوكرانيا يجب أن تكون مشروطة ببدء كييف محادثات سلام مع روسيا، وقد اقترحوا إجراء مفاوضات على أساس الخطوط الأمامية الحالية.
إضافة إلى ذلك فهم يقترحون تأخير انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي ترغب كييف فيه بشدة.
وهناك تعليقات منتشرة حول حاجة كييف إلى التخفيف من توقعاتها بشأن انسحاب روسيا من الأراضي التي تسيطر عليها شرقي أوكرانيا. ويبدو أن نهج ترامب في ما يتعلق بهذه القضية يركز على ضمان أمن أوكرانيا، وليس الحفاظ على سلامة أراضيها. وكان ترامب صريحاً في رأيه بأن أعضاء “الناتو” لم يقوموا بتحمل مسؤولياتهم كما ينبغي في الحلف؛ ما أثار قلقاً كبيراً بين الأعضاء بشأن كيفية تأثير ذلك في فعالية الردع الذي يُفترض أن يوفره “الناتو” ضد القادة المُعادين له. وفي ضوء هذه التطورات تجدر الإشارة إلى أن المستشار الألماني، أولاف شولتس، قام في 15 نوفمبر الماضي بإجراء مكالمة هاتفية طويلة مع الرئيس الروسي بوتين.
الشرق الأوسط
إلى جانب ادعائه أنه سيُنهي حرب أوكرانيا في يوم واحد فقد وعد ترامب أيضاً بأنه سيقوم بإحلال السلام في الشرق الأوسط. إن ترامب، الذي ينسجم بقوة مع السياسات الإسرائيلية، لم ينخرط من قبل في حوار مع القيادة الفلسطينية، وإن كان يحافظ على علاقات قوية مع العديد من القادة العرب. ولم يعط رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الموافقة الرسمية على حل الدولتين، حتى بشروط صفقة ترامب. وبعد المآسي في قطاع غزة سيكون توقيع اتفاقية بين السعودية وإسرائيل هدفاً صعباً، إذ أعلنت المملكة صراحةً أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة هو شرط أساسي للسلام مع إسرائيل.
وأعرب ترامب بالفعل عن رغبته في إنهاء العنف في قطاع غزة ولبنان، قبل تنصيبه رسمياً؛ لكن تحقيق ذلك، وإن كان أولوية مهمة للإدارة الأمريكية القادمة، سيتطلب عملاً متوازناً ودقيقاً.
وهذا التوازن يجب أن يشمل كلاً من اليمين الإسرائيلي، وحركة حماس، والسلطة الفلسطينية، وإيران، والسعودية؛ فضلاً عن مصر والأردن وسوريا، وكل الفاعلين في المنطقة الذين تتعرض مصالحهم الوطنية للخطر.
إن الوضع الحالي يطرح نموذجاً هو إما كل شيء أو لا شيء، ما يثير التساؤل حول ما إذا كان ترامب سيسعى إلى التوصل إلى “صفقة كبرى” وإغلاق كامل لملف الصراع في الشرق الأوسط، أم سيختار التركيز على الإنجازات المحدودة التي تهدف إلى إنهاء الأعمال العدائية مع تقديمها على أنها “صفقات كبرى”. ويمكن أن يكون اهتمام الرئيس الأمريكي الجديد بعقد صفقة مثيراً للاهتمام، وإذا كانت ناجحة ستكون تاريخية. ومع ذلك فإن ميل ترامب إلى تجاهل قيم الصواب والخطأ لصالح الثروة والقوة قد يأتي بتكلفة كبيرة على حقوق الفلسطينيين والعرب باعتبارهم الأطراف المُحتلة.
وفي الختام يمكن أن نتوقع، استناداً إلى ممارسات ترامب السابقة في الشرق الأوسط وتصريحاته بشأن أوكرانيا، أن تكون ما تُسمى “صفقة القرن الثانية” التي يقترحها شاملة لمساحة أقل بكثير من أراضي غزة والضفة الغربية، وهو ما يتماشى مع الرفض الإسرائيلي لقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، مع تمكين إسرائيل من السيطرة على أجزاء كبيرة من الضفة الغربية. وفي الوقت نفسه قد يشجع إنشاء دولة فلسطينية رمزية الدول العربية على المساعدة في إدارة شؤون غزة وتسهيل إقامة علاقات مع إسرائيل في المنطقة.
وإذا ما نجح ترامب في إنهاء الصراعات وجلب السلام الشرعي لكل من أوكرانيا والصراع العربي الإسرائيلي فسيكون أحسن استخدام الدبلوماسية باعتبارها الأداة الأكثر فعالية لحل النزاعات؛ وعلى العكس من ذلك إذا فشلت جهوده غير التقليدية، القائمة على إعطاء الأولوية لتوازنات القوى على حساب الحقوق المشروعة، فإنه يخاطر بتدمير مبادئ القانون الدولي التي تحكم النزاعات الإقليمية والصراعات الوطنية. ومثل هذا السيناريو قد تكون له عواقب وخيمة على النظام العالمي والعلاقات الدولية لأجيال قادمة. والوقت وحده هو الذي سيخبرنا أي سيناريو سوف يتحقق.