يرى رامز صلاح، الباحث المتخصص في القضايا الدولية، أن الإعلان عن النموذج الجديد لشركة “ديب سيك” الصينية (DeepSeek-R1) أحدث صدمة في الأسواق المالية الأمريكية، إذ سجلت شركات التكنولوجيا خسائر ملحوظة في الـ 27 يناير الماضي، أبرزها تراجع سهم “إنفيديا” بما يعادل 600 مليار دولار من قيمته السوقية، لافتا إلى أن “هذا التطور يعكس نجاح الصين في تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة بتكلفة منخفضة، رغم العقوبات الأمريكية التي تستهدف قطاع التكنولوجيا؛ ما يثير تساؤلات حول مستقبل الهيمنة الأمريكية في هذا المجال”.
وسجل الكاتب ضمن مقال منشور من قبل مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، معنون بـ”رسائل ديب سيك الصينية لواشنطن.. صعود تكنولوجي رغم العقوبات”، أن واشنطن ردت عبر مشروع “ستارغيت”، الذي يهدف لاستثمار 500 مليار دولار في تطوير بنية تحتية متقدمة للذكاء الاصطناعي، إلا أن قدرة “ديب سيك” على تحقيق نتائج تنافسية بميزانية محدودة تُعيد النظر في معايير التفوق التكنولوجي، مشيرا إلى أن “اعتماد الصين على تصنيع رقائق محلية، رغم القيود الأمريكية، يعكس تحولا إستراتيجيا في المشهد العالمي”.
ولفت رامز الانتباه إلى أن “المستثمرين يشككون في مدى قدرة الشركات الأمريكية على الحفاظ على ريادتها، فيما يواجه الذكاء الاصطناعي تحديات تتجاوز الجانب التقني، تشمل الأبعاد الأخلاقية والأمنية وتأثيرات السوق”، موضحا أنه “بالنظر إلى ارتفاع المخاوف من استغلال هذه التقنيات في الهجمات السيبرانية تتجه الأنظار إلى كيفية تعامل القوى الكبرى مع هذه المنافسة، وما إذا كانت ستفضي إلى تعاون دولي أو إلى تصعيد جديد في الحرب التكنولوجية بين الصين وأمريكا”.
نص المقال:
الابتكار التكيفي
أعلنت الشركة الصينية الناشئة “ديب سيك” عن نموذجها الجديد (DeepSeek-R1)، بعد أقل من أسبوع على تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو النموذج الذي أظهر أداء لافتا مقارنة بنماذج الذكاء الاصطناعي الأمريكية الرائدة مثل “تشات جي بي تي” (ChatGPT)، وبتكلفة تدريب لم تتجاوز 5.6 ملايين دولار. وقد أثار هذا الابتكار الصيني منخفض التكلفة موجةً من الصدمة في الأسواق المالية العالمية، تسببت في تراجع ملحوظ في مؤشرات البورصة الأمريكية، خاصةً قطاع التكنولوجيا، يوم 27 يناير 2025، مع خسارة مؤشر “ناسداك” نحو 3.1% من قيمته، وتراجع “إنفيديا” وحدها بما يعادل 600 مليار دولار من قيمتها السوقية؛ وذلك قبل أن تستقر أسهم هذه الشركات الأمريكية مرة أخرى في اليوم التالي.
وجاء هذا التطور المتسارع في وقت تُنفق الشركات الأمريكية مليارات الدولارات على تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، وسط قيود جيوسياسية على تصدير الرقائق الإلكترونية المتطورة إلى الصين؛ ما أثار تساؤلات حول أبعاد هذه الأزمة، وانعكاساتها على الهيمنة التكنولوجية والاقتصادية الأمريكية.
فبينما يُصر قادة الشركات الأمريكية، مثل ساتياناديلا، الرئيس التنفيذي لشركة “مايكروسوفت”، على أن التفوق الصيني يجب أن يُؤخذ على محمل الجد، تتزايد الانقسامات داخل “وول ستريت” بين متفائل رأى في هذا الانهيار المؤقت “فرصة شراء ذهبية”، ومتشائم حذّر من انفجار فقاعة الذكاء الاصطناعي التي رفعت قيمة القطاع إلى مستويات غير مسبوقة. وفي خضم هذا الجدل ربما تُعيد “ديب سيك” تعريف قواعد المنافسة العالمية، عبر دمجها بين الكفاءة التقنية وتجاوز العقوبات الغربية؛ ما يدفع نحو تساؤلات من قبيل: هل يشكل صعود الصين في الذكاء الاصطناعي تهديداً للتفوق الأمريكي؟ وما تداعيات هذه المعركة التكنولوجية على الاستقرار المالي العالمي؟.
دلالات عديدة
يعكس التراجع الملحوظ في الأسواق المالية الأمريكية يوم 27 يناير 2025، الذي تزامن مع صعود نموذج “ديب سيك” الصيني، مجموعة من الدلالات العميقة التي تتجاوز هذه الخسائر المالية، ويمكن تفصيلها على النحو التالي:
1– تحدي التفوق التكنولوجي الأمريكي: أظهرت شركة “ديب سيك” الصينية، التي تأسست عام 2023 برأس مال أولي يقدر بنحو 10 ملايين يوان (ما يعادل نحو 1.4 مليون دولار)، قدرة على تطوير نموذج للذكاء الاصطناعي بتكلفة منخفضة، إذ تشير التقديرات إلى أنها قد لا تتجاوز 1% من تكلفة النماذج الأمريكية المشابهة التي طورتها شركات مثل “أوبن أيه آي” (OpenAI) و”غوغل” (Google). وهذا التطور يطرح تساؤلات حول مدى صحة الافتراض القائل إن التفوق التكنولوجي يرتهن بالشركات الغربية. ففي وقت أنفقت الشركات الأمريكية مبالغ كبيرة تُقدر بمئات المليارات على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي من خلال تحسين البنية التحتية والرقائق، استطاعت “ديب سيك” تحقيق نتائج قابلة للمقارنة باستخدام 2000 دارة متكاملة (Integrated Circuit)، متجاوزة بذلك العقوبات الأمريكية التي كانت تستهدف إبطاء التقدم الصيني في مجال أشباه الموصلات. وتشير التقارير إلى أن الشركات الأمريكية الكبرى، مثل “أوبن أيه آي” و”غوغل” قد استثمرت مبالغ كبيرة لدعم هذه التقنيات.
وفي هذا السياق أعلن الرئيس ترامب، في 22 يناير 2025، عن إطلاق مشروع “ستارغيت” (Stargate)؛ وهو شراكة إستراتيجية ثلاثية في مجال البنية التحتية للذكاء الاصطناعي تجمع “أوبن أيه آي” و”أوراكل” (Oracle) و”سوفت بنك” (SoftBank)، باستثمارات تصل إلى 500 مليار دولار بحلول عام 2029، مع استثمار أولي قدره 100 مليار دولار لبناء مراكز بيانات في تكساس. ومن المُتوقع أن يسهم هذا المشروع في خلق أكثر من 100 ألف فرصة عمل في الولايات المتحدة. وبالتوازي مع ذلك استثمرت “غوغل” أكثر من مليار دولار في شركة “أنثروبيك” (Anthropic)، المنافس الرئيسي لـ”تشات جي بي تي” في مجال الذكاء الاصطناعي.
ومن جهة أخرى تمكنت “ديب سيك” من تطوير نموذج (R1) الذي يُنافس نماذج مثل (OpenAI O1) بتكلفة أقل بنسبة 90 إلى 95%، مع أداء متميز في اختبارات الرياضيات والبرمجة. كما أطلقت الشركة نموذجاً آخر يُسمى (DeepSeek-V3)، يُعد نقلة نوعية في هذا المجال؛ إذ يحتوي على 671 مليار معلمة ويعتمد على بنية “خليط الخبراء”؛ ما يعزز كفاءته ويخفض التكاليف.
2– تصادم المصالح الجيوسياسية والاقتصادية: يشير التراجع المؤقت في الأسواق المالية إلى أكثر من مجرد رد فعل على التطور التقني الصيني، فقد يكون ناتجاً عن تفاعل بين إستراتيجيتين مختلفتين، هما:
أ- الإستراتيجية الصينية: تعتمد بكين على تطوير حلول مبتكرة في مجال التكنولوجيا رغم العقوبات المفروضة عليها، وذلك عبر تكثيف التعاون بين القطاعين العام والخاص؛ ففي عام 2019 كانت الصين تستورد ما يُقدر بـ350 مليار دولار من الرقائق سنوياً، وتقوم بتصنيع 35% فقط من احتياجاتها محلياً. وبعد فرض العقوبات على شركة “هواوي” ومنعها من الوصول إلى الرقائق الأمريكية أطلقت بكين خطة استثمارية ضخمة بقيمة 143 مليار دولار في سبتمبر 2022 بهدف تعزيز صناعة الرقائق المحلية. وقد أسفرت هذه الجهود عن إطلاق شركة “هواوي” معالج (Kirin 9010) بتقنية 7 نانومتر في سبتمبر 2024، متجاوزة بذلك بعض العقوبات. ومهد هذا التطور الطريق أمام شركات مثل “ديب سيك” لتحقيق تطورات في مجال الذكاء الاصطناعي عبر الاعتماد على شرائح “إنفيديا”.
كما أنفقت الصين نحو 41 مليار دولار على معدات تصنيع الرقائق عام 2024؛ وهو ما يمثل 40% من الإنفاق العالمي، مع زيادة واردات آلات الطباعة الحجرية بنسبة 450% في ديسمبر 2023 بهدف تفادي القيود الغربية. وهذه الإجراءات تُعد جزءاً من مبادرة “صُنِعَ في الصين 2025″، التي تهدف إلى تعزيز مكانة البلاد كقطب تكنولوجي عالمي.
ب- الإستراتيجية الأمريكية: تعمل واشنطن على عرقلة التقدم التكنولوجي الصيني من خلال حظر تصدير الرقائق المتطورة وزيادة الاستثمار الداخلي في البنية التحتية التكنولوجية، خاصةً في “وادي السيليكون”. وفي ديسمبر 2024 فُرِضَتْ قيود جديدة استهدفت 140 شركة صينية، بما في ذلك شركات تصنيع معدات الرقائق مثل (NauraTechnology Group)؛ بهدف منع وصول الصين إلى الرقائق التي يمكن استخدامها في تطبيقات الذكاء الاصطناعي والأنظمة العسكرية المتقدمة.
ورغم هذه القيود تمكنت بكين من تجاوز بعضها عبر تطوير بدائل محلية واستخدام قنوات غير رسمية للحصول على التكنولوجيا المحظورة. وهذا النجاح كشف عن محدودية الأدوات الأمريكية في تحقيق أهدافها؛ ما دفع “وول ستريت” إلى مراجعة استثماراتها في الشركات المعتمدة على التكنولوجيا الحساسة. وفي المقابل ردت الصين بفرض حظر على تصدير مواد حيوية مثل “الغاليوم” و”الجرمانيوم”، التي تُعد مكونات أساسية في تصنيع أشباه الموصلات المتقدمة.
3– تحوُّل الذكاء الاصطناعي من فرصة إلى تهديد: تحولت تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي كانت تُعد المحرك الرئيسي لنمو أسواق الأسهم خلال السنوات الماضية، إلى مصدر تهديد فجائي. فبينما كانت الشركات الأمريكية تتباهى بقدراتها على جذب الاستثمارات عبر وعود بمستقبل تقني مبهر جاءت “ديب سيك” لتُذكِّر الأسواق بأن الابتكار لا يرتبط بالضرورة بالإنفاق الضخم؛ الأمر الذي دفع المحللين إلى التشكيك في الجدوى الاقتصادية لاستثمارات مثل مشروع “مايكروسوفت” (Microsoft) البالغ 80 مليار دولار في مراكز البيانات، فضلاً عن مشروع “ستارغيت”.
لكن التهديدات لا تقتصر على الجانب الاقتصادي، بل تمتد إلى تحديات أخلاقية وأمنية تعكسها عيوب نماذج الذكاء الاصطناعي نفسها. وتُعاني هذه النماذج، مثل “ديب سيك” و”تشات جي بي تي”، من مشكلة الاستجابات المضللة؛ إذ قد تُنتج معلومات غير دقيقة أو مضللة دون سابق إنذار؛ ما يهدد مصداقية تطبيقاتها في قطاعات حساسة؛ كما تُظهر كذلك تحيزات عميقة نابعة من البيانات التي تدربت عليها، فـ”ديب سيك” قد تتجنب مناقشة قضايا سياسية أو اجتماعية حساسة في الصين، بينما قد يعكس “تشات جي بي تي” تحيزات غربية في تغطيته للأحداث العالمية.
ومن الناحية الأمنية تبرز مخاوف من إمكانية استغلال هذه النماذج لتنفيذ هجمات سيبرانية معقدة، خاصةً مع تزايد اعتماد القطاعات الحيوية على الذكاء الاصطناعي. وفي حالة “ديب سيك” يُخشى أن تخضع مخرجاتها لرقابة صارمة تتناغم مع السياسات الصينية؛ ما يُضعف استقلالية المعلومات ويُعمق الشكوك حول موثوقية التكنولوجيا الصينية في الأسواق العالمية.
وهذه التحديات تُضفي مزيداً من التعقيد على المنافسة التكنولوجية؛ إذ لم يعد التفوق يُقاس بالابتكار التقني وحده، بل أيضاً بالقدرة على ضمان الشفافية والأمان والحيادية في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
ارتدادات حاسمة
هناك عدة تداعيات لصعود نموذج “ديب سيك” الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي، منها الآتي:
1- تأثر سوق العملات الرقمية: مع انخفاض سهم شركة “إنفيديا” بنسبة 6.5%، وتراجع سهم “مايكروسوفت” بنسبة 3.5%، وامتداد هذا التراجع إلى الساحة الأوروبية؛ حيث هبط سهم شركة “أيه إس إم إل” (ASML) بنسبة 9%، فإن ذلك التراجع في أسهم التكنولوجيا أثار موجة من عمليات البيع في سوق العملات المُشفرة؛ ما أدى إلى تصفية ما يقرب من مليار دولار من الأصول الرقمية. ونتيجة لذلك انخفضت قيمة عملة “البيتكوين” بنسبة 5%، وتراجعت العملات البديلة بنسب تتراوح بين 8% و10%. ويمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال تحليل العلاقة بين أسواق الأسهم التقليدية وسوق العملات المُشفرة. فعندما يتعرض قطاع التكنولوجيا لضغوط بيعية قد يلجأ المستثمرون إلى تصفية أصولهم الرقمية لتغطية خسائرهم أو لتقليل المخاطر. وهذا السلوك يعكس الترابط المتزايد بين الأسواق المالية التقليدية والحديثة، ويشير إلى أهمية مراقبة التغيرات في هذه الأسواق لفهم ديناميكيات الاستثمار المعاصر.
2- إعادة توزيع الاستثمارات: قد يدفع هذا التطور المستثمرين إلى إعادة النظر في إستراتيجياتهم الاستثمارية، مع التركيز على الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي في الصين؛ ما قد يؤدي إلى تحول في تدفقات رأس المال العالمية. وتعتمد “ديب سيك” نهجاً مفتوح المصدر يُقلل تكاليف الاعتماد على التكنولوجيا ويجذب المطورين والشركات الناشئة العالمية، على عكس النمط الاحتكاري السائد في “وادي السيليكون”. كما أن نجاح الصين في تطوير تكنولوجيا متقدمة رغم القيود الأمريكية على تصدير الرقائق يُظهر مرونة النموذج الصيني، ويُعزِّز ثقة المستثمرين في قدرة الشركات الصينية على الابتكار تحت الضغوط.
3- تغيير معايير الصناعة: قد يؤدي نجاح “ديب سيك” إلى اعتماد معايير جديدة في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، مع التركيز على الكفاءة والتكلفة المنخفضة. فعلى سبيل المثال تتميز نماذج “ديب سيك” بهيكل تكلفة أقل بكثير مقارنةً بمنافسيها مثل “أوبن أيه آي”؛ إذ تفرض “ديب سيك” نحو 0.55 دولار لكل مليون رمز إدخال، مقارنةً بـ15 دولاراً لكل مليون رمز لدى “أوبن أيه آي”. وهذا الفارق الكبير في الأسعار لا يجعل التكنولوجيا المتقدمة للذكاء الاصطناعي أكثر سهولة في الوصول فحسب، بل يضع أيضاً ضغوطاً على الشركات الأخرى لإعادة النظر في إستراتيجيات التسعير ونماذج التشغيل الخاصة بها. بالإضافة إلى ذلك يُتوقع أن تركز المعايير الجديدة على المرونة والقابلية للتطبيق؛ ما يسمح للنماذج بالتكيف بسهولة مع مختلف السيناريوهات والتطبيقات دون الحاجة إلى تعديلات كبيرة. كما ستولي هذه المعايير اهتماماً بالاستدامة، من خلال تقليل الأثر البيئي المرتبط بتشغيل النماذج الضخمة.
4- تراجع في قطاعي التكنولوجيا والطاقة: بعد إطلاق شركة “ديب سيك” الصينية نموذج ذكاء اصطناعي متقدم يتطلب طاقة حوسبة أقل بكثير من النماذج الأمريكية الحالية، شهدت أسواق الأسهم تراجعات ملحوظة في قطاعي التكنولوجيا والطاقة. وتأثرت أسهم شركات التكنولوجيا العملاقة، وخاصةً تلك العاملة في الحوسبة السحابية، بشكل لافت؛ إذ انخفضت أسهم “ألفابت” (الشركة الأم لغوغل) بنسبة 3.1%، وأسهم “أمازون” بنسبة 2.5%، وأسهم “مايكروسوفت” بنسبة 3.55%. وتعكس هذه الانخفاضات مخاوف المستثمرين من أن النموذج الجديد لـ”ديب سيك” قد يقلل الطلب على خدمات الحوسبة السحابية التقليدية، مع تحول الشركات إلى نماذج ذكاء اصطناعي أكثر كفاءة وأقل تكلفة.
إلى جانب ذلك شهدت شركات الطاقة المرتبطة بمراكز البيانات، مثل “كونستليشن إنيرجي” و”فيسترا كورب”، تراجعات حادة في أسهمها. ويُعزى ذلك إلى توقعات بانخفاض الطلب على الطاقة من مراكز البيانات نتيجة الكفاءة العالية التي يوفرها نموذج “ديب سيك”. كما انخفضت أسهم شركات أخرى في قطاع الطاقة، مثل “جي إي فيرنوفا”، بأكثر من 21%؛ ما يعكس التأثير الواسع لهذه التقنية الجديدة في سوق الطاقة.
دروس مستفادة:
قد يشير التراجع في الأسواق المالية الأمريكية يوم 27 يناير 2025 إلى أكثر من مجرد تصحيح ظرفي لأسعار الأسهم، وقد يعكس تحولاً في ديناميكيات المنافسة التكنولوجية العالمية. ولا شك أن نجاح نموذج “ديب سيك” الصيني في تحقيق كفاءة تكنولوجية عالية بتكاليف منخفضة رغم العقوبات قد يثير تساؤلات حول افتراض الهيمنة الأمريكية المطلقة في الابتكار؛ فالتفوق التكنولوجي لم يعد مقتصراً على التفوق في الإنفاق، بل قد يعتمد أيضاً على القدرة على تحسين الكفاءة وتجاوز القيود الهيكلية.
وتُظهر هذه التحولات أن الأسواق المالية أصبحت شديدة الحساسية للتطورات التكنولوجية العابرة للحدود، وهو ما يدعم فرضية الترابط بين التكنولوجيا والاستقرار المالي. فكما أثر نموذج “ديب سيك” في قطاعي التكنولوجيا والطاقة قد تحدث ابتكارات مماثلة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي الكمي أو الحوسبة الخضراء؛ ما قد يسبب اضطرابات في قطاعات أخرى.
ولهذا قد تحتاج الدول الصناعية إلى اعتماد إستراتيجيات مرنة تدمج بين التعاون الدولي وحماية المصالح الحيوية. وهذا التحول ربما يستدعي إعادة النظر في النظريات الكلاسيكية للهيمنة التكنولوجية، مثل نموذج دورة حياة التكنولوجيا، التي تفترض سيطرة الاقتصادات المتقدمة على مراحل الابتكار. فصعود الصين يشير إلى إمكانية أن تقوم الاقتصادات الناشئة بإعادة تشكيل هذه الدورة عبر آليات مثل الابتكار التكيفي، الذي يعتمد على تحسين التقنيات الحالية بدلاً من اختراعها من الصفر.