
أن يخرج علينا وزير حرب الاحتلال يسرائيل كاتس بتهديد صاخب يتحدث فيه عن اغتيال السيد عبد الملك الحوثي ورفع العلم الإسرائيلي فوق سماء صنعاء، فهذا ليس مجرد تصريح للاستهلاك الإعلامي، بل تعبير مكثّف عن هذيان سياسي وعسكرة خطابية تحاول أن تخفي فشلاً أعمق داخل منظومة القرار الإسرائيلي. فالرجل لم يكن يتحدث من فراغ، ولم يطلق عباراته صدفة، إنما أراد أن يبعث برسالة مزدوجة، أولاً لجمهوره الداخلي المتصدّع، وثانيًا للإقليم والعالم، وكأنّه يقول: ما زلنا هنا، وما زالت “إسرائيل” قادرة على فرض أجندتها ولو بالتهديد.لكن خلف هذه العبارات الرنّانة تختبئ حقائق مرة: فشل استخباري مدوٍّ في الخارج، عجز ميداني متكرر في الداخل، أزمة ثقة بين القيادة والجيش، وانقسام سياسي لم يشهده الكيان بهذا العمق منذ تأسيسه.
إنها ليست المرة الأولى التي يلوّح فيها جنرال إسرائيلي بأحلام لا تجد لها سندًا في الواقع. فمنذ عقود ونحن نسمع عن عقيدة “الأمن المطلق” وعن مقولة “الجيش الذي لا يُقهر”، وعن “الذراع الطويلة” التي تصل إلى أي مكان. لكن التجربة التاريخية تكشف أن كل تلك الشعارات سرعان ما تتهاوى أمام أول امتحان جدي. في عام 1973، تحطمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهر عند أبواب قناة السويس وفي صحارى سيناء وعلى جبال الجولان. وفي عام 2000، انسحب الجيش الإسرائيلي مذلولًا من جنوب لبنان بعد 18 عامًا من الاحتلال. وفي حرب 2006، وقف حزب الله في مواجهة آلة عسكرية ضخمة، ليخرج الكيان بعدها وهو يلعق جراحه ويعيد صياغة عقيدته الدفاعية بدل الهجومية. واليوم في غزة، وبعد ما يقارب عامين من الحرب المفتوحة، لم تنجح إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها المعلنة: لا القضاء على المقاومة، ولا إعادة الأسرى، ولا فرض معادلة ردع جديدة.
الغريب أن كاتس يطلق تهديداته الأخيرة بعد أيام قليلة من فشل اثنتي عشرة طائرة إسرائيلية في اغتيال قادة من حركة “حماس” في قلب الدوحة. الفشل لم يكن عسكريًا فحسب، بل فضيحة سياسية ودبلوماسية من الطراز الأول، كشفت أن المؤسسة التي طالما روّجت لذاتها كأجهزة عابرة للقارات، عاجزة اليوم عن إصابة هدف محدد حتى وهي تخترق أجواء دولة صديقة لواشنطن. صورة “الموساد” الذهبيّة التي بناها اغتيال قادة فلسطينيين في بيروت أو دمشق أو تونس تتآكل بسرعة، وحكاية الردع تتهاوى تحت أقدام واقع جديد اسمه “المقاومة المتعددة الجبهات”: غزة، جنوب لبنان، العراق، اليمن.
ربما على كاتس أن يتذكر جيدًا: من يرسل سبعة ملايين مستوطن إلى الملاجئ كل ليلة ليست إيران ولا سوريا، بل صواريخ يمنية فوق صوتية، وأن من يغلق مطاري اللد ورامون ليس حزب الله هذه المرة، بل طائرات مسيّرة انطلقت من جبال صعدة والحديدة. من ضرب ميناء إيلات في قلب البحر الأحمر وأجبر سفنكم على تغيير مساراتها هم اليمنيون الذين رفضوا أن يتركوا غزة وحيدة، ففتحوا جبهة موازية أربكت الاقتصاد الإسرائيلي أكثر مما فعلت الجبهات التقليدية. ومن يظن أن صنعاء ستكون ساحة سهلة لرفع علم الاحتلال، فهو يتجاهل دروس التاريخ: فمنذ الآشوريين والفرس والرومان والعثمانيين، واليمن كان مقبرة الغزاة.
وهنا نطرح السؤال الأعمق: ماذا تريد إسرائيل بالضبط؟ ما الذي يدفع وزير حربها إلى التهديد بفتح جبهة جديدة بينما لم يخرج من جبهة غزة حتى الآن؟ هل بات مشروع “إسرائيل الكبرى” يتشكل اليوم عبر تفاهمات سرية في الغرف المغلقة؟ هناك تسريبات عن محادثات تتعلق بسوريا، وإعادة رسم موازين القوى في لبنان، وفتح احتمالات جبهة تصعيد مع مصر، وكأن الكيان يحاول أن يختصر أزماته الداخلية عبر إشعال ساحات إضافية بدل أن يواجه الحقيقة في غزة والداخل.
ففي الملف السوري، هناك حديث عن تسويات يتم طبخها بين عواصم غربية وإقليمية تتعلق بترتيبات أمنية في الجنوب السوري تضمن لإسرائيل “هدوء الجولان” مقابل تفاهمات غامضة. وفي الملف اللبناني، تسعى إسرائيل إلى فرض معادلة جديدة عبر التصعيد أو التهديد به، محاولة الضغط على حزب الله لإبعاد جبهته عن الصراع في غزة. أما في الملف المصري، فالتلميحات المتكررة عن سيناء وعن قناة السويس وعن أمن البحر الأحمر ليست بعيدة عن محاولة ابتزاز القاهرة أو جرّها إلى مقايضات لا تخدم سوى بقاء الكيان.