المبعوث الأمريكي في بعبدا.. من كيسنجر إلى باراك: لغة العجرفة لم تتغيّر

المبعوث الأمريكي في بعبدا.. من كيسنجر إلى باراك: لغة العجرفة لم تتغيّر

لم يكن المشهد في قصر بعبدا ظهر الثلاثاء عابراً، حين خرج المبعوث الأمريكي “توم باراك” على الصحفيين بعبارات أقرب إلى لغة الشارع منها إلى لغة الدبلوماسية، وكأنه يتحدث مع قطيع لا مع نخبة إعلامية في بلد ما زال يُعدّ مركز إشعاع حضاري في المنطقة. ما قاله الرجل لم يكن مجرد زلّة لسان، بل يعكس ذهنية راسخة في العقل السياسي الأمريكي: ذهنية الاستعلاء على شعوب الشرق الأوسط، والنظر إليهم باعتبارهم “عائقاً” في طريق المشاريع الأميركية المتشابكة.

لقد ذكّرني مشهد باراك وهو يتبجح بكلمات لا تليق بدبلوماسي، بزيارة هنري كيسنجر الأولى إلى المنطقة منتصف السبعينيات، حين وصف الشرق الأوسط بأنه “منطقة متعجرفة”، قبل أن يبدأ بترتيب خرائط النفوذ الأمريكي ورسم خطوط النار بين العرب وإسرائيل. كيسنجر جاء بعقلية “المهندس البارد” الذي يصوغ خرائط على الورق، أما باراك فجاء بعقلية “السمسار الغليظ” الذي يتحدث بلغة مقاول سوقي، فيكشف ما تحاول أمريكا إخفاءه من نوايا حقيقية.

لكن المفارقة التاريخية أن المبعوث الأمريكي هذه المرة لم يدرك أنه يقف في بلد كان يوماً قلب حضارة “الفينيقيين” الذين علّموا العالم الأبجدية والتجارة البحرية وصناعة الزجاج والأرجوان. لم يدرك أن من أمامه ليسوا أبناء صحراء قاحلة بلا تاريخ، بل أحفاد أمم صنعت المدن الكبرى على شواطئ المتوسط.

فماذا يملك باراك ليتباهى به؟ أمريكا نفسها لم يُكتب لها تاريخ إلا بالأمس القريب، ومنذ نشأتها وهي تعيش على استيراد العقول والثروات، وتصدير الحروب والانقلابات.

إن الوقاحة التي تحدث بها باراك ليست مجرد إهانة للإعلام اللبناني، بل هي إعلان صريح عن كيفية نظر واشنطن إلى لبنان: قطعة شطرنج صغيرة على رقعة أكبر، تُحركها بحسب موازين النفوذ مع إسرائيل وإيران وسوريا.

هل تريد دولة ضعيفة بلا مقاومة بعد أفول نجم حزب الله؟ أم تراها تسعى لفتح ثغرة في جدار الأزمة الاقتصادية والسياسية لتعيد فرض وصايتها المالية والأمنية؟ أم أن المطلوب هو فقط تطويع لبنان ليكون ملحقاً بتسويات إقليمية كبرى تكتب بنودها بين تل أبيب وواشنطن وبعض العواصم العربية؟

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *