
الموت بحثًا عن الحياة.. مرة أخرى يبتلع البحر عشرات الأحلام، مرة أخرى يُغرق المتوسط قاربًا مطاطيًّا صغيرًا خرج من شواطئ طبرق الليبية محملاً بشباب في عمر الزهور، كانوا يحلمون بالوصول إلى الضفة الأخرى، إلى أوروبا الموعودة، لكن الرحلة تحولت إلى فصل جديد من رواية الفقد.
مصرع 18 شابًا مصريًّا، وفقدان أكثر من 50 آخرين، ولا تزال فرق الإنقاذ تبحث بين الأمواج عن بقايا الحلم، عن جثث أو ناجين محتملين.
المشهد يتكرر، لكن الوجع لا يتكرر، في كل مرة تتغير الأسماء والوجوه، لكن الدموع هي نفسها: أمهات يفتحن أبواب البيوت في القرى الفقيرة، يعلقن صور الأبناء على الجدران وينتظرن خبرًا، وآباء يقفون على الطرق البعيدة يحدّقون في المدى وكأنهم يبحثون عن ضوء قادم من البحر.
هذه ليست مجرد حادثة غرق، بل هي مرآة لأزمة أكبر، أزمة شباب ضاق بهم العيش، فهربوا من البطالة والفقر وانسداد الأفق، ليجدوا الموت أسرع من أي ميناء، إنها رحلات موتٍ اختياري بين الوهم والخذلان، شباب دفعوا ثمن أحلامهم المكسورة في مجتمع لم يمنحهم سوى الوعود، فكان البحر خيارهم الأخير.
هل هي مسؤولية الحكومة وحدها؟ الحقيقة أن المسؤولية جماعية، لا يُستثنى منها أحد: الأسرة التي تغض الطرف أحيانًا، المجتمع الذي لا يقدم بدائل واقعية، التعليم الذي يفشل في بناء مهارات، خطباء المساجد الذين يكتفون بالوعظ دون تقديم حلول، الأجهزة الرسمية التي تحاول لكنها لا تكفي. الكل مسؤول، والكل مدان أمام دموع الأمهات ونواح القرى.
ما يحدث ليس مجرد هجرة غير شرعية، بل جرح مفتوح في جسد وطن ينزف. كل جثة تطفو على سطح البحر ليست رقمًا في نشرة أخبار، بل صرخة مكتومة تقول: «الموت ليس بديلاً عن الحياة».