
فى منطقة السيدة عائشة بالقاهرة، حيث تتعانق المآذن مع قباب الإمام الشافعى وتتشابك الأزقة القديمة مع أصوات القاهرة التى لا تنام، يولد صباح مختلف عن أى صباح آخر هناك، عند حافة الميدان الذى يزدحم بالحافلات والمارة، تمتد سوق شعبية عتيقة تعرفها الناس بمسميات شتى؛ سوق الجمعة، سوق السيدة عائشة، أو سوق الإمام الشافعى، لكنه فى النهاية مكان واحد، يختزن بين طرقاته الضيقة وحواريه الترابية وجوه الناس وذاكرتهم، ويكشف عن وجه آخر لا تراه فى المولات ولا فى واجهات المحال الكبرى، وهو صوت الفقراء فى مواجهة الغلاء.


منذ الساعات الأولى يتدفق الباعة، يفترشون بضائعهم على الأرض أو فوق طاولات خشبية مهترئة، بعضهم يجر عربات صغيرة محمّلة بما تيسر من ملابس مستعملة، أحذية قديمة، أوانى مطبخ فقدت بريقها، آخرون يجرّون أكياسًا ضخمة ممتلئة بأسلاك وأجهزة كهربائية، ومع الفجر تتقاطع أصواتهم: من ينادى «أى حاجة على الفرش بـ١٠» ومن يصرخ فى حماسة ليبيع «ريموت كنترول لأى نوع تليفزيون»، ومن يلوّح بقطع حديدية عتيقة يصفها بأنها «مستوردة من زمن الملك».


ووسط هذا الضجيج يسير الناس فى زحام يشبه الموج المتدفق، هناك امرأة تمسك بيد طفلها وتساوم على حذاء مستعمل لأن الجديد بات بعيد المنال، بينما يعبر شاب أنيق بملامح باحث أو مقتنٍ للأنتيكات، يتأمل بعناية ساعة حائط مكسورة يرى فيها قطعة نادرة تستحق الشراء، فى هذه المفارقة، يلتقى الفقراء والأغنياء على الأرض نفسها، كلٌ يبحث عما يعينه على الحياة أو يرضى شغفه.


«من الإبرة للصاروخ» هكذا يصف الزوار تنوع المعروضات، بالفعل، يمكنك أن تبدأ من أبسط الأشياء: مسامير صدئة، مفكات مستعملة، قطع غيار عفا عليها الزمن، ثم ترتقى تدريجيًا لتجد أثاثًا منزليًا كاملًا، آلات موسيقية مهجورة، كتبًا ممزقة تحتفظ بعناوين كُتبت بخط اليد، بل وحتى تماثيل نصف مكسورة تحمل ملامح آلهة فرعونية، فى لحظة واحدة، تشعر أن السوق متحف فوضوى مفتوح، لا يخضع لقوانين العرض والطلب المعتادة، بل لقوانين الصدفة والصدمة.


لا يعرف أحد على وجه الدقة متى بدأ سوق الجمعة، لكن الحكايات الشعبية تربطه دومًا بمقابر الإمام الشافعى ومحيط السيدة عائشة، قيل إن بداياته تعود لعشرات السنين، حينما كان الفقراء يجتمعون لبيع ما يفيض عن حاجتهم بعد صلاة الجمعة، كان كل شىء بسيطا، ثم مع الوقت تمددت السوق واتسعت، وصارت مقصدا لمن يريد التخلص من أثاث قديم أو شراء متاع مستعمل بأقل الأسعار.


ولأن السوق تجاور مقابر القاهرة التاريخية، ارتبطت بعض معروضاتها بذاكرة الموتى، كثير من الباعة يعرضون متعلقات ورثوها عن أقارب راحلين: كتب دينية بخطوط مهترئة، نظارات طبية بأطر نحاسية، ملابس بقيت تحمل رائحة أصحابها، هنا، تتجسد الذاكرة المادية للبيوت المصرية فى صورها الأكثر قسوة وصدقًا.
السوق أيضًا شاهدة على تقلبات الزمن، يقول عم محمد رجل خمسينى: «فى السبعينيات والثمانينيات كان ملاذًا للفقراء، ثم مع بداية الألفية دخلت عليه تجارة جديدة، أجهزة الكمبيوتر المستعملة، الموبايلات القديمة، قطع غيار السيارات النادرة، واليوم صار مساحة تجمع بين الماضى والحاضر، بين الفانوس النحاسى من بيوت القاهرة الخديوية، وجهاز (لاب توب) لا يعمل إلا إذا وُصل بالكهرباء».


الاقتصاد الموازى
على أرض السوق تُعاد صياغة قواعد الاقتصاد الشعبى، البائع يعرف أن زبونه لا يملك الكثير، فيعرض بضاعته بجنيهات قليلة، لكنه فى الوقت نفسه يجيد لعبة المساومة؟ هناك من يبيع قميصًا مستعملًا بـ٣٠ جنيهًا بينما يصرخ آخر ليبيع شاحن هاتف بـ١٠ جنيهات فقط.
لكن خلف هذه الأرقام الصغيرة تتحرك دورة اقتصادية ضخمة، تُعيل مئات الأسر وتعطى حياة ثانية لملايين الأشياء التى كان مصيرها القمامة.
إعادة التدوير هنا ليست مجرد شعار بيئى، بل ممارسة حياتية، الغسالة القديمة تتحول إلى قطع غيار، والموقد المكسور يجد من يستفيد من مساميره، والملابس الممزقة تُشترى ليُعاد قصها وخياطتها حتى الكتب القديمة، رغم حالتها السيئة، تُباع لتجار الورق بالكيلو، كل شىء له ثمن، مهما بدا بلا قيمة.
وسط هذه الدورة تجد نماذج شديدة الطرافة، أحد الباعة يفخر بأن لديه قدرة على إصلاح أى جهاز كهربائى بمجرد «لمسة»: «الحاجة عندنا مش بتموت.. هنا أى جهاز ليه تصليح».


وجوه وحكايات
الحيوانات فى سوق الجمعة عالم قائم بذاته، فى جانب منه، تفترش أقفاص الدجاج والبط والحمام الأرض، وفى جانب آخر تصطف أقفاص الكلاب والقطط والزواحف، الحية والميتة المحنطة، أصوات العصافير تختلط بنباح الكلاب وصياح الباعة، المشهد قد يثير الفضول أو الغضب؛ إذ يرى البعض أنه تجارة قاسية فى أرواح كائنات ضعيفة، بينما يراه آخرون مصدر رزق وهواية.


على بعد خطوات يقف «عم سيد»، بائع أدوات موسيقية قديمة، أمامه عود مكسور، أورج مهترئ، ودفوف فقدت جلدها، يقول بابتسامة: «كل آلة هنا ليها حكاية.. يمكن حد يعيد ليها الحياة» يمر عليه موسيقيون شباب يبحثون عن شىء رخيص يبدأون به مشوارهم، أو عن صوت مختلف لا يجدونه فى الأسواق الحديثة.
وبالقرب من بوابة الإمام الشافعى يجلس «أبورمضان»، رجل ستينى يبيع كتبًا قديمة بعضها ممزق وبعضها نادر، يشير إلى نسخة من ديوان قديم ويقول: الكتاب ده جه من مكتبة بيت كبير اتباع أثاثه كله بعد ما ولاد صاحبه سافروا بره، وفى لحظة تدرك أن السوق ليس مجرد بضاعة، بل ذاكرة بيوت كاملة تُعرض للبيع.
مفارقات السوق


أكثر ما يثير الدهشة هو اجتماع الفقراء والأغنياء فى المشهد نفسه، سيدة بسيطة تبحث عن ملابس لأولادها بجنيهات قليلة، وفى اللحظة ذاتها يقف بجوارها رجل أنيق يساوم على ثمن شمعدان نحاسى بمئات الجنيهات لأنه «قطعة أثرية»، وكلاهما يجد مبتغاه فى المكان نفسه، على التراب ذاته، لكن دوافعهما متباينة حد التناقض.
وهذه المفارقة تمنح السوق طابعًا خاصًا، هنا يمكن أن ترى بائعًا يصرخ لبيع فردة حذاء واحدة، بينما على بعد خطوات يعرض آخر لوحة زيتية مهملة كأنها تحفة فنية، فى هذا الخليط العجيب، يتجاور البؤس والترف، الحاجة والشغف، وكأن القاهرة كلها اختزلت فى مساحة صغيرة واحدة.
لغة السوق


السوق أيضًا لها لغتها الخاصة، الباعة يبتكرون عبارات لإغراء الزبائن: «كله بجنيه يا جماعة»، «الجهاز ده بيشغل نفسه لوحده»، «العصافير دى بتغنى»، الجمل تأتى مشحونة بالفكاهة والمبالغة، وفيها قدر من الشعرية الشعبية التى لا تسمعها إلا هنا، هى لغة هجينة، فيها من الغش أحيانًا ومن الطرافة كثيرًا، لكنها تبقى جزءًا من طقوس المكان.
سوق الجمعة فى منطقة السيدة عائشة ليس مجرد مساحة للبيع والشراء، إنه مسرح مفتوح للحياة المصرية بكل تناقضاتها: هو صوت الفقراء فى مواجهة الغلاء، وهو متعة الأغنياء فى البحث عن التحف، وهو ذاكرة البيوت القديمة التى وجدت نفسها معروضة على الأرض فى صباح عابر. من يمر هناك لا يخرج فقط بصفقة أو غنيمة، بل بصورة مكثفة عن القاهرة نفسها: مدينة تعيد تدوير كل شىء، لا تلقى شيئًا وراء ظهرها، حتى لو كان مكسورًا أو ميتًا، السوق شاهد على أن الحياة، مهما بدت قاسية، تمنح دومًا فرصة ثانية، حتى لو كانت فى يد بائع على الرصيف ينادى بأعلى صوته: «أى حاجة لها زبون».