
في زمن الالتباس والانفصال عن الجذور، يبدو أن ما كان يجب أن يكون مصدر فخر واعتزاز، بات لدى البعض عبئًا يحاولون التخلص منه. فها نحن نرى شريحة ليست بالقليلة من أبناء هذا الوطن، وقد انقلبوا على واحدة من أكثر الفترات وطنيّة في التاريخ المصري الحديث، وكأنها لعنة يتنصلون منها، لا محطة مضيئة في مسار أمة كانت تنفض عنها غبار الاستعمار.
من المفارقات أن جلّ من يتصدّرون الهجوم على التجربة الناصرية، هم في حقيقة الأمر من المنتفعين، بشكل مباشر أو غير مباشر، من مكتسباتها. أبناء الفلاحين الذين تحرّروا من سطوة الإقطاع، وأحفاد عمّال التراحيل الذين كانوا يُجلدون في حقول “الخاصّة الملكيّة” تحت أعين نُظّار لا يردعهم قانون ولا ضمير. أولئك الذين انتُزعت كرامتهم لقرون، صاروا الآن يتنكرون لمن رفع عنهم السوط وأعاد لهم إنسانيتهم.
إن الهجوم الممنهج على عبد الناصر ليس بريئًا، ولا هو فقط نتاج قراءة ناقدة لتجربة سياسية. بل هو في جزء كبير منه تعبير عن عقدة طبقية متوارثة، يهرب بها البعض من مواجهة تاريخهم الاجتماعي. فمن الأسهل إدانة المرحلة الناصرية، من الوقوف أمام المرآة ومواجهة الماضي العائلي بكل ما فيه من عبودية الأرض وذل التبعية.
لا أحد يُنكر الأخطاء، فالرجل لم يكن نبيًا، ولا تجربته خالية من الزلل. لكن أن تُختزل تجربة وطنية كبرى في شعارات جوفاء من قبيل “أفقر مصر” و”ضيع الجنيه”، فهذا استخفاف فادح بالعقل والتاريخ. تلك المقولات السطحية التي تُردد كما لو كانت وحيًا، دون بذل أدنى جهد للفهم أو المقارنة أو وضع الأمور في سياقاتها الاقتصادية والسياسية الدولية، ليست سوى نتاج آلة دعائية ضخمة. آلة اشتغلت لعقود، ومُوّلت بسخاء، لا لتصحيح المسار، بل لدفن الحقبة تحت ركام من الشك والكراهية.
والأدهى أن النتيجة المرجوة من تلك الحملة قد تحققت إلى حد بعيد: نجحوا في انتزاع المصريين من ذاكرتهم، وجعلوا الانتماء لمرحلة التحرر الوطني بمثابة سُبّة. غاب السد العالي، وتأميم القناة، وبناء المصانع الثقيلة عن الوعي العام، لتحل محلها أسطوانة “الحريات المصادرة” و”الهزيمة الكبرى”، وكأن الوطن لا يُقاس إلا بصناديق الاقتراع أو سعر الصرف.
ثم يأتي السؤال المشروع: أين هي تجربة من يهاجم؟ وأي مشروع قدّمه هذا الناقد للوطن؟ هل ورث مشروعًا وطنيًا بديلًا؟ هل بنى مصنعًا أو أعاد كرامة؟ أم أنه اكتفى بإلقاء الحجارة من رصيف التنكر والفراغ؟ من السهل جلد من تصدّى للمهمة وحمل العبء، لكن الأصعب أن تُنتج بديلاً، أو أن تكتب سطرًا واحدًا في تاريخ هذا الوطن لا يخجل منه أحفادك.