
«كان رزقى كله هنا.. كل حاجة راحت»، يتمتم أبو كريم، وهو ينظر إلى ركام باكياته المحترقة، حيث كانت الملابس المعلقة قبل ساعات تتدلى بألوان زاهية، تحولت الآن إلى خيوط متفحمة تلتف على نفسها، بعد ٨ ساعات من اشتعال النيران فى ١٥ باكية لبيع الملابس الجاهزة ومحل عصائر وكشرى شهير فى محيط سلم الخروج بمحطة مترو أنفاق شبرا الخيمة، ما أدى إلى إصابة عدد من الأشخاص باختناق.
من موقع الحريق، وعلى مدار ساعات متواصلة، رصدنا تطورات الحادث فى مشاهد متتابعة، تنقل تفاصيل اللحظات الأولى لاشتعال النيران، وردود فعل الأهالى، وعمليات الإطفاء والإنقاذ، وصولًا إلى رفع الأنقاض فى اليوم التالى. تنوعت المشاهد بين شهادات أصحاب الباكيات المتضررة، وأصوات الفزع التى عمّت المكان، وتحركات قوات الإطفاء، وانتهاءً بقرارات المحافظ عقب المعاينة.
كانت رائحة القماش المحترق تملأ المكان، بينما تقف بعض السيدات فى الخلفية يمسحن دموعهن بأطراف طرحهن، وأصواتهن تختلط بين البكاء والدعاء، لم يكن الحريق مجرد نار أكلت القماش، بل التهم سنوات من التعب والانتظار، على حد وصفهم، بعض التجار جلسوا على الأرض، ممددين أيديهم على صدورهم، غير قادرين على استيعاب ما حدث.
«شفتها بعينى وهى تولع فى ثانية»، يقول عم محمود عبدالفتاح، مسؤول الأمن بأحد المحال الشهيرة، وهو يشير إلى زاوية ما كان قبل الحريق محل عصائر صغير، إذ كانت الكابينة الكهربائية داخل المحل تومض قبل أن تنفجر فجأة، «زى قنبلة»، على حد وصفه، ليشتعل المكان فى لحظات.
لم تمنح النار أحدًا فرصة للتفكير، إذ قفزت من محل العصائر إلى محل الكشرى المجاور، ثم وجدت طريقها إلى الباكيات المحيطة، كانت الأقمشة المخزنة هناك وقودًا مثاليًا لهبها، فبدأت تلتهم الأكشاك واحدًا تلو الآخر، وفق حديث محمود لـ«المصرى اليوم».
«اجرى يا ولدى.. النار جاية!» تصرخ سيدة مسنة، وهى تدفع حفيدها بعيدًا عن صف الباكيات، الشارع الموازى لمترو الأنفاق تحول إلى مشهد من الفوضى، حيث اندفع رواد المترو إلى الخارج بعد توقف حركة القطارات لعدة دقائق. كان الدخان الأسود يتصاعد كعمود كثيف، يمكن رؤيته من مسافات بعيدة، أصوات الناس تعالت بين التحذير والاستغاثة، والهواء صار ثقيلًا برائحة البلاستيك المحترق.
محمد عامر، الذى كان داخل أحد المطاعم لحظة الحريق، يتذكر تلك اللحظة: «كنا بناكل وفجأة حسينا برائحة دخان غريبة، وبعدها سمعنا صوت فرقعة.. خرجنا لقينا النار جايه من محل العصائر».
أطفأ العاملون بالمطعم مواقد الغاز بسرعة، وأخذوا يساعدون الزبائن على الخروج بهدوء، لكن النيران كانت أسرع، خلال دقائق، كان المطعم محاطًا بالدخان من الجانبين، ما اضطرهم للانتقال إلى الشارع وسط حالة من الهلع، حسب محمد.
فى محاولة يائسة، بدأ بعض أصحاب الباكيات يجلبون دلاء المياه من منازلهم القريبة، بينما آخرون كانوا يستخدمون خراطيم صغيرة متصلة بمحالهم.. «كنا بنجرى من كل ناحية، لكن النار كانت بتسبقنا»، يصف أحد الباعة الجائلين، ويقول إن حرارة اللهب كانت تمنع الاقتراب، وصوت تشقق الخشب وانفجار الزجاج كان يذكّر الجميع بخطورة الموقف، لم يكن فى أيديهم سوى الانتظار حتى تصل سيارات الإطفاء.
بعد نحو نصف الساعة، دوّى صوت صفارات سيارات الإطفاء فى المنطقة، اندفع رجال الدفاع المدنى إلى قلب الحريق، تتساقط قطرات العرق من وجوههم تحت الخوذات الثقيلة، والدخان يحيط بهم من كل جانب، بدأوا فى رش المياه من جهات متعددة، لكن الألسنة النارية كانت ترفض الانطفاء بسهولة، استمرت المعركة بين النار والمياه ٨ ساعات متواصلة، حتى بدأت النيران تخفت تدريجيًا، تاركة وراءها باكيات سوداء متفحمة.
مع حلول منتصف الليل، كان المكان أشبه بساحة حرب بعد المعركة، ورغم إخماد الحريق، ظل القلق يسيطر على أصحاب الباكيات التى لم تمسها النيران. «فضلنا نفك الباكيات ونشيل البضاعة قبل الفجر.. خفنا النار ترجع تاني»، يقول شاب عشرينى وهو يجر عربة محملة بأكياس الملابس، كان العرق يمتزج بآثار السخام على وجهه، بينما فى الخلفية تنبعث رائحة الدخان من بين الأخشاب المبللة.
عند الفجر، ظهر موكب محافظ القليوبية، يرافقه عدد من القيادات الأمنية، تجول بين صفوف الباكيات المحترقة، يراقب الأضرار، قبل أن يعلن قراره بإزالة الباكيات المتضررة بالكامل. «ناس كتير اتخرب بيتها، لكن أهم حاجة إن مفيش أرواح راحت»، قال محمد أبوطالب، محامى أحد المحال المتضررة، كان صوته يحمل مزيجًا من الحزن والامتنان، فيما كان المحافظ يتحدث مع مسؤولى الحى عن إجراءات التعويض.
لم يتوقف العمل منذ الصباح، جرافات صغيرة وعمال يرتدون سترات فسفورية بدأوا فى رفع الركام، وسط أصوات الطرقات المعدنية، استغرق الأمر ساعات متواصلة لإزالة كل ما تبقى من الأخشاب المحترقة والملابس المتفحمة، الأطفال كانوا يراقبون من بعيد، وبعضهم يلتقط صورًا بهواتفهم، أما الكبار، فظلوا يتابعون بصمت، وكأنهم يشيّعون جثمان رزقهم الأخير.
مع غروب الشمس، كان المكان قد تحول إلى فراغ كبير، لا أثر فيه للباكيات التى كانت تضج بالحياة قبل يوم واحد، اختفت الألوان واللافتات، ولم يبق سوى أرض رمادية مبللة بالمياه، وقف أصحاب الباكيات فى حلقات صغيرة، يتحدثون عن خططهم المقبلة، لكن العيون كانت تقول إن الطريق طويل للعودة.. «هنا كان رزقى ورزق أولادى»، همس أبو كريم مرة أخرى، قبل أن يغادر المكان بخطوات بطيئة، حاملًا على كتفه آخر كيس نجى من الحريق.