لماذا تشعلون النار حول مصر؟

لماذا تشعلون النار حول مصر؟

من يشعل النار، عليه أن يطفئها. هذه ليست حكمة عابرة، بل قانون للحياة والسياسة والتاريخ. من يبدأ المأساة هو المسئول عن وضع النهاية، ومن يفتح الأبواب للعاصفة لا يملك أن يختبئ حين تهب الرياح.

لكننا اليوم أمام مشهد مقلوب: أيادٍ في الخارج تشعل الحرائق، ثم تشير بأصابع الاتهام إلى مصر، كأنها وحدها المسؤولة عن دخانٍ يتصاعد من بيوت ليست بيوتها. تُدَار الحملة بدهاء، والزج باسمها في مخططات مشبوهة: مرة بتهمة تصفية القضية الفلسطينية على أرضها، ومرة بحديث التهجير إلى صحرائها، ومرة بربطها بمشاريع لم تولد إلا في عقول من يريدون تسخين المنطقة كلها حتى تحترق في النهاية.

يا سادتي، مصر ليست صندوق بريد لتصفية الحسابات، ولا مسرحًا لاستقبال نيران الآخرين. مصر التي واجهت كل الغزاة عبر التاريخ ليست ملعبًا للرهانات الخاسرة. من يشعل الحرب في غزة، من يفتعل الأزمات في الإقليم، من يفتح أبواب الطائفية والعرقية على مصاريعها… هؤلاء هم مشعلو النيران الحقيقيون، وعليهم أن يطفئوا ما أشعلوه، لا أن يلقوا بالمسؤولية على القاهرة.

الحرائق من حولنا كثيرة: في فلسطين، في السودان، في ليبيا، في سوريا واليمن. لكن مصر، برغم كل الأوجاع والأزمات، تبقى واقفة. تحترق أطرافها أحيانًا لكنها لا تسقط، لأنها ببساطة ليست دولة عابرة.

مصر مهبط الأنبياء، مصر الزمان والمكان، خُلقت قبل التاريخ، تمرض ولا تموت. جاءها كل الغزاة: من الإسكندر الأكبر إلى الرومان، من الفرس واليونانيين إلى البطالمة، من الهكسوس إلى التتار والمغول، من الصليبيين إلى الفرنسيين مع نابليون، ومن الإنجليز إلى العثمانيين والفاطميين والأيوبيين والمماليك… جميعهم عبروا من هنا، ذابوا أو هربوا، وبقيت مصر وحدها. يا كاتب التاريخ، ماذا جدّ لنا؟

مصر التي احتضنت إبراهيم الخليل، وباركت يعقوب ويوسف، وحملت موسى على ضفاف النيل، ولجأت إليها مريم العذراء والمسيح الطفل، هي نفسها مصر التي كانت مريم القبطية زوجة للرسول الكريم، ومنها جاء إسماعيل أبا العرب. مصر النيل الخالد، وأساطير المعابد، مصر البحاروة والصعايدة والنوبة والأمازيغ وكل الديانات السماوية، مصر البحرين والقناة، شريان الحياة الممتد بين الشرق والغرب، مصر السد والبرج، الأهرامات والمعابد، مصر التي لا تُجترأ، تمرض مثل مرضها المزمن في لعنة الجغرافيا، لكنها لا تموت. قوتها الناعمة في فنونها وآدابها، في علمائها ومفكريها، وفي وجدان شعوبٍ لا تزال تنظر إليها كقبلة الروح.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *