
منذ فجر التاريخ لم تكن مصر مجرد دولة على خريطة العالم، بل كانت ولا تزال منبع الحضارة الإنسانية وموئل الرسالات السماوية. على ضفاف النيل وُلدت الكتابة الأولى، وتجلت العدالة، وقامت المعابد والقصور التي صنعت هوية الإنسان الشرقي، ومن أرضها مرّت الرسالات وحُفظت العائلة المقدسة، لتصبح مصر قلب الشرق ومفتاحه وعموده الفقري الروحي والتاريخي. هذه الحضارة لم تكن مادية فقط، بل إنسانية وروحية بامتياز، تبلورت منذ مسار إبراهيم الخليل الذي خرج من أور بالعراق، ومرّ بحرّان جنوب تركيا، ثم السويداء وحوران في سوريا، ليستقر في أرض كنعان بفلسطين والأردن. ذلك المسار لم يكن مجرد رحلة جغرافية، بل طريقًا مقدسًا أسس لحضارة روحية إنسانية متكاملة، امتدت على طول المشرق، وظلت أساسًا للهوية الشرقية حتى اليوم. ومع نشوء مملكة داوود وسليمان في القرن العاشر قبل الميلاد، برزت مصر كحامية وداعمة لها، حيث لم يكن للمملكة أن تقوم أو تستمر لولا الدعم المصري المباشر، العسكري والأمني والسياسي، الذي وفره الفرعون شيشنق الأول حين زوّج ابنته لسليمان، وأطلق حملة عسكرية لحماية حدود تلك المملكة، وهو ما سجلته نقوش الكرنك عام 945 ق.م. مصر في ذلك الوقت لم تكن مجرد جار داعم، بل الضامن الوحيد لقيام المملكة وبقائها، ما يوضح أن كل مشروع في أرض فلسطين لم يكن ليستمر لولا غطاء مصر.
هذا الارتباط التاريخي عاد ليُستحضر في المشروع الصهيوني الحديث بما يسمى إسرائيل الكبرى أو مملكة داوود الممتدة من النيل إلى الفرات، وهي محاولة لإعادة إنتاج المسار الإبراهيمي في صيغة سياسية جيوستراتيجية، توظف الدين لخدمة مشروع السيطرة على المنطقة. لكن الفارق الجوهري أن مصر اليوم تقف ضد هذا المشروع بكل قوتها، مدركة أنه يمثل تهجينًا ثقافيًا وسياسيًا غريبًا عن جسد المنطقة، وأن نجاحه يعني نهاية الحضارة الإنسانية- الروحية الشرقية. لذلك تُصمّم مصر على إفشاله مهما بلغت قوته أو تعاظمت أدواته، تمامًا كما كانت في الماضي الحامي والضامن، فهي اليوم الحائط الصلب الذي يمنع قيام مملكة هجينة تستند إلى التوظيف الغربي للدين.
ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين ظهرت ملامح ما سُمّي بالشرق الأوسط الجديد، الذي بشّرت به كونداليزا رايس عام 2006 إبان حرب لبنان، والذي استند إلى تفكيك الدول المركزية في المنطقة. فكان إسقاط العراق عام 2003 الخطوة الأولى لضرب مهد المسار الروحي الذي بدأه إبراهيم، ثم تفجير سوريا عام 2011، وإنهاك ليبيا واليمن، وصناعة تنظيمات متطرفة شوهت صورة الإسلام، إلى جانب تهجير المسيحيين من الموصل وحمص وحلب وتجريف التعددية الدينية. كل ذلك لم يكن صدفة، بل مخططًا لتفكيك الحضارة الإنسانية الروحية الشرقية، وإحلال ديانة هجينة تُسمى “الإبراهيمية” أو “ممر داوود”، بما يخدم الرؤية الإسرائيلية – الغربية لخلق جسم صهيوني سياسي – ديني في المنطقة. وفي جوهر هذا المشروع التقاء بين العقيدة اليهودية التي تنتظر مسيحًا ملكًا أرضيًا يحكم من هيكل سليمان، والعقيدة البروتستانتية الغربية التي تتبنى فكرة الحكم الألفي للمسيح العائد ليقود مملكة زمنية من أورشليم. هذا اللقاء الفكري الديني تم توظيفه سياسيًا ليُصبح أساس الهيمنة الغربية، حيث تتحكم البروتستانتية الصهيونية في دوائر القرار السياسي بالغرب وتأتي بقادته لخدمة المشروع، لتتحول المنطقة إلى مركز للهيمنة الروحية- السياسية يضمن استمرار نفوذ الغرب عالميًا.
غير أن هذا المشروع اصطدم بمصر، التي لم تقف مكتوفة الأيدي، بل دشنت قناة السويس الجديدة عام 2015، وأطلقت مشروع القطار الكهربائي السريع الرابط بين البحرين الأحمر والمتوسط فيما يشبه قناة برية، وأقامت مناطق صناعية ولوجستية عابرة للقارات، وطورت قوة عسكرية ضمن الأقوى عالميًا، بما جعل أي محاولة لفرض واقع استراتيجي جديد في غزة أو سيناء شبه مستحيلة. في قلب هذا الموقف تتجلى قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أعاد لمصر مكانتها التاريخية، ربط التنمية الاقتصادية بالنهضة العسكرية، وحوّل الدولة المصرية إلى حجر زاوية في مواجهة مشروع الشرق الأوسط الجديد.وإلى جانب الدولة لعبت الكنيسة القبطية المصرية دورًا تاريخيًا محوريًا في مقاومة المشروع الديني- السياسي الغربي، إذ قاد البابا شنودة الثالث الراحل موقفًا صارمًا ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني، وحافظ على هوية المسيحية المشرقية، بينما واصل البابا تواضروس الثاني الحالي النهج ذاته بروح وطنية عميقة، منسقًا مع الدولة والأزهر الشريف، ليجعل من الكنيسة دعامة للوحدة الوطنية وحصنًا ضد محاولات التوظيف الديني. وفي المقابل، وقف الأزهر بقيادة الإمام الأكبر أحمد الطيب في جبهة واحدة مع الكنيسة، مؤكدًا أن مصر ليست فقط أرض الحضارة المادية، بل حامية الرسالات والهوية الروحية الشرقية.
الصراع إذاً ليس مجرد نزاع جغرافي أو سياسي، بل صراع حضارات بمعناه الأعمق: بين حضارة الشرق الإنسانية – الروحية التي تشكلت منذ مسار إبراهيم، وحُفظت بمسار العائلة المقدسة إلى مصر، وامتدت عبر الأزهر والكنيسة لتصبح ثقافة وهوية متكاملة، وبين حضارة الغرب المادية – الانحلالية التي تفكك الأديان وتفرغها من معانيها لصالح الهيمنة. وما جرى في العراق وسوريا وليبيا واليمن لم يكن سوى مراحل لتفجير نقاط المسار الروحي، من أور إبراهيم إلى غزة، بحيث تتحول إلى بؤر صراع تُعاد صياغتها ثقافيًا وسياسيًا لإقامة إسرائيل الكبرى ومركزها الجيوسياسي البديل لمصر. بل إن الحرب الروسية – الأوكرانية 2022 جاءت لتُشغل روسيا عن الشرق الأوسط، وتفتح الباب لمساومات دولية قد تُستخدم ضد مصر. وإلى جانب ذلك ظهر سد النهضة كأداة أخرى في حرب الحضارات، باعتبار النيل روح مصر ومصدر وجودها منذ آلاف السنين، ليصبح التحكم فيه جزءًا من الصراع على الهوية والحضارة.
اليوم يقف العالم على مفترق طرق حاسم. الغرب يخشى التقاء حضارة الشرق الإنسانية – الروحية مع الحضارة الصينية الصاعدة عبر طريق الحرير الجديد ومبادرة الحزام والطريق، التي تصل إلى السواحل المصرية حيث ملتقى القارات ومنبع الحضارات. ومصر تجد نفسها مرة أخرى في قلب المعركة، حامية لتراث الإنسانية ودرعًا في وجه مشروع الهيمنة، حيث تتلاقى على أرضها الرسالات السماوية، وتتجسد وحدة الحضارة الروحية الشرقية في مواجهة حضارة الانحلال الغربي. إنها معركة مصيرية تحدد إن كان الشرق سيبقى محتفظًا بروحه وهويته، أم يُستبدل بجسم صهيوني – غربي غريب، وفيها كما عبر التاريخ يظل صمود مصر هو الفاصل بين بقاء الشرق أو انهياره.