أنعشت عملية “التسوية الطوعية للوضعية الجبائية للأشخاص الذاتيين فيما يتعلق بأرباحهم بالمغرب ودخولهم المفروضة عليها الضريبة بالمغرب”، التي استنفدت أجلها في 31 دجنبر الماضي، منتوجات الادخار في البنوك، بعد أن سجلت الأسبوع الأول والثاني من الشهر الجاري إقبالا من الزبائن على هذه المنتوجات، وسط شكوك حول محاولة بعضهم إقحام مبالغ نقدية ضخمة في الدورة البنكية، عن طريق ودائع موجهة إلى باقات ادخار خاصة بالتعليم والتقاعد والصحة وغيرها، علما أن العملية مكنت من تحصيل ما يفوق 6 مليارات درهم من أصل 127 مليار درهم مصرح بها.
واضطر المكلفون بالزبائن لدى البنوك، خلال الأيام الأخيرة، إلى بذل جهود كبيرة من أجل تمكين زبائن من المعلومات والمعطيات المفصلة بشأن منتوجات بنكية كان الطلب عليها ضعيفا على مدى سنوات، قبل أن يستقر اختيار زبائن على عروض ادخار بمزايا ضريبية، خصوصا خطط الادخار للتقاعد، التي تستفيد من خفض السن الأدنى المطلوب للاستفادة من الخصم الضريبي على الأقساط أو المساهمات من 50 سنة إلى 45، مع زيادة الإعفاء الضريبي بالنسبة إلى السحوبات في شكل رأس مال لا يتجاوز 168 ألف درهم، حيث تم رفع الإعفاء من 40 في المائة إلى 70 في المائة؛ في حين ظلت المبالغ الزائدة خاضعة لإعفاء بنسبة 40 في المائة، مع وجوب ألا تقل مدة عقد الادخار للتقاعد عن 8 سنوات على الأقل.
وتركز طلب زبائن، أيضا، على خطط الادخار في الأسهم (PEA)، التي تمكن المدخرين من الاستثمار بشكل دوري أو حر في الأسهم أو هيئات التوظيف الجماعي للقيم المنقولة (OPCVM)، حيث تظل متاحة لأي شخص طبيعي بالغ يقيم في المغرب أو مغربي مقيم بالخارج؛ فيما يمكن لكل شخص فتح حساب ادخار في الأسهم واحد فقط، بالإضافة إلى منتوجات ادخار أخرى، همت التأمين على الحياة والتقاعد التكميلي، التي تتوفر على مزايا ضريبية؛ ذلك أنه يمكن خصم المساهمات المدفوعة من الدخل الخاضع للضريبة، ما يقلل من أساس التضريب، علما أن الشروط ونسب الإعفاء تختلف حسب المنتج وفترة الاحتفاظ به.
تبييض الأموال
يعتبر خبراء أن بعض منتجات الادخار البنكي أكثر عرضة لمخاطر غسيل أو تبييض الأموال بسبب طبيعتها، مؤكدين أن سهولة فتح الحسابات الادخارية تجعلها جذابة لمبيضي الأموال؛ فيما تشمل الإشارات المريبة الإيداعات المتكررة لمبالغ كبيرة تتبعها سحوبات سريعة، موضحين أن الحسابات لأجل تتيح لمحترفي الأنشطة الإجرامية المذكورة إيداع مبالغ كبيرة تحت غطاء الاستثمار ثم استرداد الأموال مع الفوائد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى التأمين على الحياة أو الادخار للتقاعد التي تسمح بالقيام بمدفوعات منتظمة وسحب الأموال في صورة رأس مال؛ ما يجعلها أدوات محتملة لإخفاء الأموال غير المشروعة، ناهيك عن خطط الادخار في الأسهم التي تمكن من نقل الأموال ودمجها بشكل قانون، من خلال الاستثمار في الأسهم أو هيئات التوظيف المشتركة.
وأوضح عمر إسماعيلي، إطار بنكي، متخصص في تدبير المخاطر الائتمانية والمالية، في تصريح لهسبريس، أن “مخاطر تبييض الأموال أصبحت تمثل تحديا رئيسيا للقطاع البنكي، خصوصا بعد انتهاء أجل عملية التسوية الطوعية للوضعية الضريبية، وتشديد الخناق على الأموال النقدية الموجود خارج القنوات البنكية؛ وذلك نظرا لاستغلال بعض المنتجات الادخارية في هذا النوع من الأنشطة غير القانونية، مؤكدا أن سهولة فتح الحسابات الادخارية وعدم الحاجة لتقديم تفاصيل معمقة حول مصادر الأموال تجعلها جذابة لمبيضي الأموال، مشيرا إلى أن الأنشطة المشبوهة تتضمن غالبا إيداعات متكررة لمبالغ كبيرة تتبعها سحوبات سريعة أو تحويلات إلى حسابات أخرى.
في السياق ذاته، أضاف إسماعيلي أن الحسابات لأجل تعد من الأدوات الأخرى التي يتم استغلالها، حيث تستخدم لتبرير وجود الأموال على أنها استثمارات شرعية طويلة الأجل؛ ما يسمح باستردادها لاحقا مصحوبة بعوائد تبدو قانونية.
واعتبر أن التأمين على الحياة وخطط الادخار للتقاعد تشكل هي الأخرى مخاطر محتملة، حيث يمكن عبرها القيام بمدفوعات منتظمة على مدى سنوات؛ ما يصعب تتبع مصادر الأموال الأصلية، مشيرا إلى أن خطط الادخار في الأسهم تُمثل تحديا إضافيا، حيث تستخدم للاستثمار في الأسواق المالية أو في صناديق الاستثمار الجماعي، الأمر الذي يتيح لمبيضي الأموال نقلها وإعادة دمجها في النظام المالي بطريقة قانونية ظاهريا، مشددا في مواجهة هذه المخاطر على أهمية تعزيز آليات “اعرف زبونك” (KYC) داخل المؤسسات البنكية، بهدف التحقق من هوية الزبائن ومصادر أموالهم.
ملاذ المتهربين
يشكل التهرب الضريبي عبر منتجات الادخار البنكي في المغرب تحديا كبيرا لمصالح المراقبة التابعة للمديرية العامة للضرائب، التي راهنت على عملية التسوية الطوعية للوضعية الضريبية من أجل جذب عدد من المتهربين في منتوجات الادخار لتقديم إقرارات جبائية وأداء المستحقات الواجبة على الأموال غير المصرح بها، فيما تسعى هذه المصالح أيضا إلى تبني مقاربة متكاملة تجمع بين التشريع والشفافية والتوعية لتحسين التحصيل الضريبي وتعزيز الثقة بين المواطنين والنظام البنكي والضريبي، رغم تنامي التصريح الناقص عن عائدات الادخار؛ مثل الفوائد أو أرباح رأس المال، الخاصة للضريبة على الدخل (IR). ومع ذلك، حيث يلجأ بعض الأفراد إلى عدم التصريح بهذه العائدات أو يستغلون نقص التنسيق بين البنوك والإدارة الجبائية.
وأكد سليم شهابي، مستشار مالي وبنكي، أن التهرب الضريبي عبر منتجات الادخار يعكس حاجة ملحة إلى تبني نهج شامل يرتكز على ثلاث أولويات رئيسية، تهم تعزيز الشفافية من خلال تطوير أنظمة تقنية متقدمة، مثل الإبلاغ الآلي عن عائدات الادخار، ما يتيح للإدارة الضريبية رصد العمليات المالية بدقة وكفاءة، إضافة إلى ضرورة إصلاح التشريعات الحالية بما يضمن سد الثغرات القانونية وتوفير أدوات زجرية أكثر مرونة وفعالية لمعاقبة المخالفين وتشجيع التسوية الطوعية للوضعيات الضريبية.
وشدد شهابي، في تصريح لهسبريس، على أهمية عدم إغفال أهمية بناء الثقة بين المواطنين والنظام الضريبي عبر حملات توعية شاملة تبرز دور الضرائب في تعزيز التنمية الوطنية.
وفي السياق ذاته، تابع المستشار المالي والبنكي أن التعاون بين البنوك والإدارات الشريكة يعد ركيزة أساسية لمعالجة التهرب المرتبط بالأموال المودعة من مصادر مجهولة، عبر تبني معايير عالمية لتبادل المعلومات المالية وتحقيق التوازن بين الرقابة والحوافز والعقوبات باعتبارها تشكل الطريق الأمثل لضمان عدالة جبائية شاملة تساهم في تحقيق الاستدامة المالية وتعزيز التنمية الاقتصادية.
وأكد المتحدث أن الامتثال الضريبي لا يتحقق بالزجر وحده، حيث يجب أن تترافق الجهود الرقابية مع برامج توعية تظهر للمواطنين أهمية الضرائب كأداة للتنمية الوطنية، ويمكن أن تشمل أيضا استراتيجيات لتعزيز الشفافية المالية؛ ما يزيل اللبس عن كيفية استخدام أموال الضرائب في دعم الخدمات العمومية والبنية التحتية.