لم يكن الذعر الذي ظهر في عناوين وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة بعد "اكتساح" تطبيق ذكاء اصطناعي صيني سوق التكنولوجيا العالمية نتيجة الخسائر التي منيت بها شركات التكنولوجيا الأمريكية في السوق فحسب، إنما لأنه كما وصفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن حق بأنه "جرس إنذار" لتلك الشركات في الغرب.
وتنبأت صحيفة ذا إندبندنت بجولة من تكسير العظام بين بكين وواشنطن في الشهور المقبلة بعد أن تكبدت أسهم وول ستريت أكبر خسائر يومية خلال جلسات الأسبوع الماضي.
وقالت الصحيفة البريطانية: "الواضح من رد الفعل، سواء من تصريحات كبار مسؤولي شركات التكنولوجيا أو قيادات أسواق المال والأعمال في أميركا والغرب أن الجميع "فوجئوا" بالتطبيق الصيني الجديد ومدى تطوره وسرعة "تحميل" المستهلكين له من متاجر التطبيقات، وأيضًا تقدمه وتطوره التقني على رغم كل القيود الأمريكية المشددة على نقل التكنولوجيا إلى بكين والحصار الاقتصادي الصارم عليها خلال فترة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن والحالي دونالد ترامب".
وفور إطلاق شركة "ديب سيك" الصينية الناشئة تطبيقها للذكاء الاصطناعي في الـ20 من يناير الماضي، أصبح بسرعة صاروخية التطبيق رقم واحد على متجر "أبل ستور" للتطبيقات، متجاوزًا التطبيقات الأمريكية الأقدم مثل "تشات جي بي تي" و"جوجل" و"جيميني" وآبل وغيرها، ومن ثم خسرت شركات التكنولوجيا الأمريكية ما يقارب تريليون دولار من قيمتها السوقية، كان نصيب الخسارة الكبرى لشركة "إن فيديا" للرقائق الإلكترونية التي تكاد تستحوذ على سوق الرقائق المتقدمة المستخدمة في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي التي تبخر أكثر من نصف تريليون دولار (500 مليار دولار) من قيمتها السوقية، بالطبع خسرت "أوبن أي آي" صاحبة تطبيق "تشات جي بي تي" للذكاء الاصطناعي أيضًا.
التقدم الصيني
وأُسست الشركة التي أطلقت التطبيق الصيني قبل نحو عامين فحسب، ومقرها في هانجتشو عاصمة مقاطعة جيجيانج شرق الصين، وتشير بيانات محلية في الصحافة الاقتصادية الصينية إلى أن ليانغ وينفينغ، الشريك المؤسس لصندوق التحوط "هاي فلاير" يملك حصة أساسية بها.
وذكر الصندوق المؤسس للشركة الجديدة عبر حسابه الرسمي على موقع "وي تشات" الصيني في مارس 2023، إنه "يبدأ من جديد" وسيكثف تخصيص الموارد لتشكيل "مجموعة بحثية جديدة ومستقلة لاستكشاف جوهر الذكاء العام الاصطناعي"، وبعد أشهر من هذا التصريح أُسست شركة "ديب سيك" قرب نهاية العام.
وطبقًا لما ذكره موقع "بانديلي" الإخباري المتخصص في التكنولوجيا الصينية ومقره بكين، فإن "ديب سيك" هو أول تطبيق صيني يصل إلى قمة التصنيف بالنسبة إلى النسختين الأمريكية والصينية من متجر تطبيقات "آيفون" الإثنين الماضي، وكان رد فعل سام ألتمان مؤسس شركة "أوبن أي آي" التي أطلقت تطبيق "تشات جي بي تي" وكتب على حسابه بمنصة "إكس" (تويتر سابقًا) معبرًا عن دهشته الهائلة من التطبيق الصيني، قائلًا "نموذج التطبيق الصيني مذهل، خصوصًا في ما يقدمونه مقابل السعر"، مستدركًا "لكننا متحمسون بصورة أساس لمواصلة تنفيذ خريطة الطريق الخاصة بنا في شأن البحث، ونعتقد أن زيادة القدرة الحاسوبية باتت أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى حتى ننجح في مهمتنا".
ومع أن بعض المنزعجين من الإنجاز الصيني في "وادي السيليكون" (مقر شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى بولاية كاليفورنيا) اتهموا الصينيين بتدريب تطبيقهم الجديد على نماذج المعلومات التي طورتها شركات أمريكية، إلا أن الحقيقة طبقًا لما ذكره متخصصون في هذا المجال ليست هكذا تمامًا، فالتطبيق "ديب سيك" صيني تمامًا يعتمد على "المصادر المفتوحة".
التكلفة وحرق الأموال
المثير فعلًا أن تكلفة إطلاق تطبيق الذكاء الاصطناعي الصيني تقل بعشرات الأضعاف عن التطبيقات الأمريكية، وبحسب ما ذكرته الشركة الصينية على موقع المحادثات الصيني "وي تشات" فالواقع أنه "تقل كلفة نموذج التطبيق بنحو 20 إلى 50 مرة عن النموذج أوبن أي آي".
يأتي ذلك في وقت تسعى فيه شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى إلى توفير التمويل بمليارات الدولارات للاستمرار في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، وهذا فارق واضح ما بين شركات التكنولوجيا الناشئة في الصين وتلك في أمريكا والغرب، فربما لا يتوفر للشركات الصينية الناشئة حجم التمويل الذي توفره الصناديق المتعددة في الغرب وبعض دول العالم الثرية الأخرى للشركات الأميركية.
لكن الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا في أمريكا والغرب معروفة بما يسمى "حرق الأموال" أي إنفاق قدر هائل من التمويل على مشروعاتها، قبل أن تصبح شركات تدر عائدًا وأرباحًا وفي كثير من الأحيان تفشل تلك الشركات قبل أن توفر عائدًا لمن استثمروا فيها، لذا في حال الشركات مثل "أوبن أي آي" يوفر المستثمرون من الصناديق مزيدًا من التمويل للشركات كي لا تنهار ويخسروا كل استثماراتهم، وهذا ما يسمى "حرق الأموال".
يختلف الوضع تمامًا في الشركات الناشئة في الصين، ليس فحسب لأنها تتكون وتعمل في اقتصاد مركزي تهيمن عليه الدولة وإنما لأن منطق العائدات الكبيرة والربحية المبالغ فيها يختلف، فبتوقعات هامش ربح قليل مع توسع هائل في الانتشار وزيادة الطلب على منتجها التكنولوجي يمكن أن تستمر وتفوق نظيراتها الأمريكية والغربية، وهذا المنطق مستمد من تجربة الصين الصناعية منذ بدايتها في ثمانينيات القرن الماضي.