بعدما فُقدت لعقود من المكتبات، تعود في ثلاثة أجزاء أطروحة الأكاديمي عباس الجراري، الذي ارتبط بعطائه وصف “عميد الأدب المغربي”: “القْصيدة: الزجل في المغرب”.
هذه الأطروحة الصادرة عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر، كانت إعادة طبعها وصية تركها الفقيد الجراري لبّتها رفيقة دربه حميدة الصائغ الجرَّاري في ذكرى رحيله الأولى، بتقديم خاص، وكلمات عن الكتاب ومؤلِّفه، والأدب العامي منفَذِ “عبقرية الأمة”.
وفي زمن كان فيه نفورٌ من “الأدب الشعبي” وكان يُتناول بنبرة قدحية من الأكاديميين، خصّص الجرّاري أطروحته التي ناقشها منذ ما يزيد عن نصف قرن، لهذا الأدب بوصفه تعبيرا عن “مقومات الشخصية الوطنية والذاتية الجماعية” و”الاهتمام به اهتمام بهذه الذاتية وتلك المقومات، ولو لم يكن كذلك ما حاول الاستعمار أن يعنى ببعض جوانبه، ليتسنى له أن يتسرب من خلالها إلينا، ليفهم عقليتنا ويدرك أعماق ثقافتنا وأصول حضارتنا لينسفها من الأساس”.
وتقدم أطروحة “القْصيدة” مفهوم الزجل، وعلّة إطلاقه على الأدب الشعبي المغربي، وأنواعه، ومراحل انتشار اللغة العربية في المغرب، ثم بروز العامية المغربية، وخصائصها، وتطوير الزجّالين لها، وجوانبها البلاغية، وفنية أساليبها، وعَروضها؛ بُحورا وبناء وقافية.
كما اهتمت الأطروحة ذات الصيت الواسع في دراسة الأدب الشعبي المغربي جامعيّا، بموضوعات “القْصيدة” المغربية؛ من قبيل المرأة، والحياة الحسية وملذاتها، والحياة التجرّديّة من زُهد وحكمة، والعلاقة بالناس، خاصة في الهجاء، والخصام لا مع الإنسان بل حتى مع كائنات أخرى، وتطرّقت إلى علاقة الشاعر الشعبي زجلا مع “حب الرسول عليه السلام، واستعراضه لأوصافه، وشمائله، وجوانب من سيرته، كالمولد، والوفاة، والمعراج، وما خصه به من صلاة”.
وتعرّف الأطروحة أيضا بأعلام القصيدة الزجلية، مع استعراض الأسماء والنصوص القديمة لهذا الشعر منذ العهد الموحدي، وأسماء ونصوص أكثر معاصرة، وتقدّم تصوّرا للأصول الأولى للقصيدة الزجلية، فمرحلة تطوره، ثم مرحلة ازدهاره، مع تفصيل في أسماء زجالين كثر، وزجّالات أيضا، رُتِّبوا حسب مدنهم.
وفي تقديم هذه الطبعة الثانية الجديدة، كتبت رفيقة درب عباس الجراري، حميدة الصائغ الجراري: “لا يخفى أن الملحون عرفت قصيدته منذ منتصف القرن الماضي نهوضا وازدهارا كبيرا، وصل به للعالمية حين اعترفت به منظمة اليونسكو تراثا إنسانيا لا ماديا. ولا يخفى كذلك أن مجهودات الدكتور المرحوم عباس الجراري في مجال الدراسات الشعبية، كان لها كبيرُ الأثر فيما يتعلق بالتراث الشعبي المغربي”.
وتابعت: “لا يخفى على كل متتبع أن أطروحته للدكتوراه عن: الزجل في المغرب ‘القصيدة’، كانت المفتاح الذي أشرع الباب في وجه هذا الإبداع الذي ظلّ مغمورا ومستبعدا من الدراسات العلمية والأدبية”.
وأورد الكتاب كلمة للباحث في الأدب المغربي جمال بنسليمان، ذكر فيها أن “القْصيدة” كانت “مفتاحا وفاتحة سارا معا جنبا إلى جانب، عالمين متعانقين متعالقين، يدين حانيتين عاشقتين: كانت ‘القصيدة’ مفتاح شخصية العباس الذي قدمه كعالم موسوعي ضليع، من معدن علمي جد رفيع. تمد بصرك في المدى الممتد من غير أن تصطدم بعائق، بوابات كثيرة تفتح (…) لغة وعروضا وتاريخا وحضارة وموضوعات، وأعلاما ومدنا وسماعا وإنشادا وآلات”.
ثم أردف قائلا: “كانت ‘القصيدة’ فاتحة: فاتحة لمواكب وجداول من الأبحاث والدراسات، والرسائل والأطاريح: أنهارا متدفقة، وعيونا ساحرة مبتسمة متألقة مورقة، تتراقص أضواؤها في الأسحار، وغير الأسحار (…) حكايات شعبية مراكشية، وشعرا غنائيا سوسيا، وشعرا أمازيغيا أطلسيا، وأدبا شعبيا في تافيلالت، وشعرا ملحونا في آسفي، وأمثالا وكنايات… ولائحة النهر الشعبي الرقراق تطول وتطول”.
ومما خطّه عباس الجراري في أطروحته مطلع سنة 1969، هو الذي سيؤسّس بعد ذلك بالجامعة المغربية دراسات الأدب المغربي بمفهومه الواسع العابر للغات المغربية ومناطقها وأشكال كتاباتها: “وبعد، فلسنا نزعم أننا قلنا جميع ما يمكن قوله في الموضوع، ولا أننا أتينا بالقول الفصل فيه. وحسبنا أننا فتحنا بابا جديدا للبحث الأدبي في المغرب، وأننا بذلنا في سبيل ذلك جهدا يشهد الله أنه كان مخلصا ومتواصلا. وأملنا أن يجد الدارسون من زملائنا الشباب في هذه الرسالة ما يغريهم بمواصلة البحث من أجل إحياء التراث بجميع أنواعه، وأن يجد فيها المسؤولون عن جامعة محمد الخامس ما يقنعهم بضرورة إدراج أدب المغرب الشعبي في مقررات كلية الآداب، إلى جانب أدبه المعرب الذي نتحمل عبء تدريسه بها”.